Skip to main content

التلاشي الاجتماعي في إيران

تفكك النسيج الأجتماعي في إيران
AvaToday caption
أنا لا أحمل (جينات النبلاء)، وليس لي حصة من حزمة الدّعم الحكومي
posted onDecember 29, 2018
nocomment

عباس نعيمي جورشري

حالة الدراسة رقم1: عجوز يجلس في إحدى زوايا الرصيف، تزيد سنّه على 70 عامًا، منكسرًا وضعيفًا، يرتدي سترة رثَّة، وعلى رأسه قبعة من الصوف، ومع أن الشمس نادرًا ما تُطِلّ في خريف هذا العام فإن العجوز رفع يديه فوق رأسه، وجعل منهما مظلة تقيه أشعَّتها، فيما تناثر أمامه بعض الأوراق والعملات النقدية، وقد غطَّى وجهَهُ حزنٌ عميق. إنه يعيش في إحدى القرى القريبة، ويقول إنه لم يبقَ لديه حلٌ آخر، فهو محتاج إلى لقمة الخبز، كما أن أيًّا من المؤسَّسات لا ترعاه، واسمه لم يُسَجَّل في أي مكان في هذه الدولة. في الحقيقة هو مسجَّل، لكنَّه ليس كذلك! إنّه لا أحد.

الحالة رقم2: صغير في السنّ إلى درجة يصعب معها تصديق خروجه من المنزل بمفرده، يحمل في يده علبة من العلك، وهو على خلاف سائر الأطفال العاملين، لا يستطيع الكلام، ولا يروِّج سلعته، ولا يُصِرّ على أن يشتري منه أحد! ويبدو كأنه لم يتمكن بعد من تركيب حتى الجمل البسيطة، أعتقد أنه يبلغ من العمر 3 سنوات، يمشي على قارعة الطريق منتعلًا شبشبًا من البلاستيك، فيما تآكلت أكمام قميصه الذي ارتدى فوقه سترة رقيقة. لم يكُن كسائر الأطفال، فهم كانوا أكثر خبرة، ويركضون خلف المارَّة بنشاط، في حين كان يقف هو حائرًا، إنه أصغر سنًّا من أن يكون قد اكتسب أي خبرة، واسمه لم يسجَّل في أي مكان في هذه الدولة، في الحقيقة هو مسجَّل، لكنه ليس كذلك! إنه لا أحد.

الحالة رقم3: كان وجهه مُحمَرًّا بسبب الغضب الذي أخرجه على شكل صرخات، يقول: “لم يسلِّموني راتبي منذ 6 أشهر، وحتى عندما كنت أتسلّمه كان يمكنني تغطية نفقات أسرتي بصعوبة، لكن الآن…” يُجهَش بالبكاء، يشعر بالحزن، يصرخ، في حين أن اسمه لم يسجَّل في أي مكان في هذه الدولة، في الحقيقة هو مسجَّل، لكنه ليس كذلك! إنه لا أحد.

الحالة رقم4: تضع المساحيق على وجهها بشكل لافت، وتدور الأعيُن حيثما دارت، يُلقِي البعض نحوها عبارات تَهكُّم، لا تُلقِي بالًا لمركبة «كيا برايد» كانت تقف على مقربة منها، في حين تتحدث مع سائق سيارة «بيجو»، ولا تُفضِي المحادثة إلى نتيجة، وفي النهاية تركب سيارة دفع رباعي وتمضي والأعيُن تشيِّعها، تضحك ضحكة جوفاء، يأس وتيه عميقان يجريان في حياتها، اسمها لم يُسجَّل في أي مكان في هذه الدولة، في الحقيقة هو مسجَّل، لكنَّه ليس كذلك! إنها لا أحد.

الحالة رقم5: تراكمت الأوساخ فوق جبينه، والجميع يهربون منه، فيما امتلأ الجوُّ برائحة العفن ورائحة الموت، يقول: «ليس لدي مأوًى، كما أنني لست مدمنًا، لكنني لا أملك أي مال، ولا أي منزل، ولا أملك أجرة منزل، حتى إنني لا أملك مأوًى من الصفيح، لذا فأنا مُجبَر على أن أتوجَّه إلى المقبرة ليلًا، حيث جمعت بعض الأغراض ووضعتها في القبور الفارغة، أُشعِل النار، وأنام داخل القبر». يبتسم بمرارة ويقول: «أنا ساكن مقابر»! لم يسجَّل اسمه في أي مكان في هذه الدولة، في الحقيقة هو مسجَّل، لكنَّه ليس كذلك! إنه لا أحد.

الحالة رقم6: يحمل حقيبته ثقيلة، فيما أضفت النظارات على وجهه شكلًا منمَّقًا، يتحدث بأدب وبشكل هادف، ومن الواضح أن حديثه قائم على أُسُس علمية، لكنه ليس سعيدًا، ينسخ سيرته الذاتية التي اصطفَّ داخلها عديد من المقالات والمؤتمرات المتخصصة، لتقديمها لجهة العمل الجديدة، أنهى دراساته العُلْيا منذ وقت طويل، لكنه لا يزال عاطلًا عن العمل، محفظته خالية، يقول: «أنا لا أحمل (جينات النبلاء)، وليس لي حصة من حزمة الدّعم الحكومي»، إنّ اسمه غير مسجَّل في أي مكان في هذه الدولة، في الحقيقة هو مسجَّل، لكنَّه ليس كذلك! إنه لا أحد.

التحليل النهائي: على الفكر المتنوِّر أن يُشرِف على التطوُّرات الاجتماعية وحياة الناس، وعلى الآلام الخفيَّة والظاهرة، من أجل التذكير وإصلاح الأمور لما فيه خير عامَّة الناس والمصلحة المشتركة، ومن هنا فالتحذير التالي إلزامي، وهو أن إيران تواجه خطرًا أعمق بكثير من الماضي وأكثر اختلافًا عنه، ويمكن تسميته «جُرف الانهيار الاجتماعي»، فعدد جدير بالملاحظة من الإيرانيّين لم يُسجَّلوا في أي مكان، وهم يملكون هُوِيَّة ورقمًا وطنيًّا فقط، أي إنهم موجودون من حيث إنهم كذلك فقط، ولا يعنون أكثر من رقم مكوَّن من 10 خانات يُسمَّى «الرقم الوطني»! أو واحدًا أُضيفَ إلى عدد السكان فقط، ويمكن ملاحظة وجودهم عند إجراء التعداد السكاني، ومع ذلك فهم ليسوا أكثر من مجرَّد ذلك الرقم.

إنّهم لا يُشاهَدون، ولا يُسمَعون، ولا يتحدث عنهم المشرعون والرؤساء والمديرون، إنهم يعانون مشكلة في أوَّلِيَّات الحياة، إنهم يعيشون في فلاة من المعاناة للحصول على الخبز والعمل، أي حيث يكون الأمر قد تخطى مرحلة الأزمة الاقتصادية، وأصبح قضية وجود، إنه مكان أدنى بكثير من خطّ الفقر، إنه تحت خطّ الوجود، وهذه قضية أُطلقُ عليها «التلاشي الاجتماعي»، وهي تختلف كثيرًا عن الأزمة الاقتصادية، إذ تحدث حين تعيش فئة من المجتمع فيه، مسجَّلة إحصائيًّا، لكن عمليًّا ليس لها أي وجود، ويزيد وجود نظام مُغلَق ومتهرب من العدالة احتدامَ هذه الحالة، فهذه الفئة آخذة في الازدياد. إنهم لا أحد، وهذا هو جرف الانهيار الاجتماعي.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية