في خطوة ربما ستزيد من حدة الصراع بين الحكومة العراقية التي يرأسها مصطفى الكاظمي والجماعات المسلحة، أُعلن إلقاء القبض على عناصر من "عصابة الموت" المتورطة بعمليات اغتيال طالت مسؤولين وناشطين وصحافيين في محافظة البصرة جنوب البلاد.
وأثار هذا الإعلان تساؤلات عدة عن الجهات الداعمة لها، وإمكانية التوصل إلى زعماء تلك العصابة، التي تشير التسريبات إلى أنهم هربوا إلى خارج البلاد.
كما تعهد الكاظمي بإنزال القصاص ببقية القتلة وإجراء محاكمات علنية لهم. وقال في تغريدة على "تويتر" إن "عصابة الموت التي أرعبت أهلنا في البصرة، ونشرت الموت في شوارعها الحبيبة، وأزهقت أرواحاً زكية، سقطت في قبضة أبطال قواتنا الأمنية، تمهيداً لمحاكمة عادلة علنية". وأضاف "قتلة جنان ماذي وأحمد عبد الصمد اليوم، وغداً القصاص من قاتلي ريهام والهاشمي وكل المغدورين. العدالة لن تنام".
وتفاعل المئات مع تغريدة الكاظمي، مطالبين بتنفيذ شرط المحاكمات العلنية التي تحدث عنها، فضلاً عن دعوتهم إلى الكشف صراحة عن الجهات الداعمة لتلك العصابات.
وبحسب اسماعيل مصبح الوائلي، شقيق محافظ البصرة الذي اغتالته "عصابة الموت" عام 2012، يتزعم تلك المجموعة عنصر في "كتائب حزب الله"، الميليشيا الموالية لإيران.
وكان الوائلي تحدّث في وقت سابق لوكالة محلية عن أن "فرقة الموت هذه يتزعمها أحمد عبد الكريم الركابي، المعروف بـأحمد طويسة أو أحمد نجاة، نسبةً لأمه، وهو شقيق علي طويسة الذي اغتال رئيس هيئة علماء المسلمين في البصرة وإمام جامع البصرة الكبير يوسف الحسان، أواسط عام 2006". وأضاف أن "جهاز استخبارات المدينة ألقى القبض على حمزة الحلفي وحيدر فاضل العيداني، فيما هرب أحمد طويسة وعباس هاشم والمدعو السيد نائل، شقيق رائد والسيد علاء المنتمين إلى كتائب حزب الله ضمن فرقة الموت هذه"، مضيفاً أن "الهاربين لجأوا إلى مقر هيئة الحشد الشعبي، الذي آواهم يُدعى عمار أبو ياسر، مسؤول الحشد في المحافظة". وأكد الوائلي "ممارسة كتائب حزب الله والحرس الثوري ضغوطاً لتغيير مجريات التحقيق". فيما لم تبدِ تلك الأطراف حتى الآن أي ردود فعل على تلك الاتهامات.
وما زال مطلوبون كثر في قضايا تتعلق بمقتل ناشطين وصحافيين، هاربين، فيما تشير مصادر مطلعة وتصريحات سابقة لمسؤولين حكوميين إلى أن جهات نافذة أسهمت في تهريب عدد كبير منهم إلى خارج البلاد.
في السياق، كشف مصدر حكومي رفيع عن "مطالبة العراق لإيران بتسليم أكثر من 70 مطلوباً، من بينهم زعماء عصابة الموت في محافظة البصرة". وأكد المصدر أن "زعماء تلك العصابة، إضافة إلى المتهمين بقتل الباحث في الشأن السياسي هشام الهاشمي، موجودون في إيران".
ويبدو أن أحد أبرز أسباب زيارة رئيس مجلس السلطة القضائية في إيران ابراهيم رئيسي، إلى بغداد في 8 فبراير (شباط) الحالي، كان إبلاغ الجانب العراقي طهران في وقت سابق أنه سيعلن قريباً عن جزء من قتلة الناشطين والإعلاميين بعد توصّل التحقيقات إلى أن معظمهم موجود في إيران.
وفي حين ذهبت تحليلات عدة إلى تفسير زيارة رئيسي بأنها "حملة انتخابية مبكرة لمرشح المحافظين"، رأى آخرون أنه أتى لشدّ عصب الميليشيات بعد تلقّيها ضربات كبيرة لشعبيتها خلال الفترات الماضية، بينما أكدت مصادر حكومية أن السبب الأساس يتعلق بـ"تبادل متهمين، تحديداً المتورطين بقضايا قتل الناشطين".
وبحسب المصادر ذاتها، فإن "الجانب العراقي أبلغ الجانب الإيراني بأن طهران أصبحت مستودعاً مزدحماً بالمطلوبين بقضايا قتل الناشطين، وعلى طهران تسليمهم قبل أن يتسرّب الموضوع إلى الإعلام".
وكان المتحدث السابق باسم رئيس الوزراء أحمد ملا طلال، كشف في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، عن معلومات حول قضية اغتيال الخبير الأمني هشام الهاشمي.
وقال ملا طلال في مقابلة مع التلفزيون الرسمي إن "فريق التحقيق تمكّن من تحديد هوية اثنين من منفذي عملية اغتيال الهاشمي من أصل أربعة"، مؤكداً أن "جهة ما هرّبت هؤلاء إلى الخارج بعد يوم من مقتله". ولم يدلِ بأي معلومات حول الجهة المتهمة بالارتباط بعملية الاغتيال وتهريب الجناة. وكان رئيسي، أعلن في 10 فبراير، أن المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، وافق على منح عفو لبعض السجناء العراقيين في بلاده مقابل خطوة مماثلة من بغداد.
وقال إن "إصدار العفو عن السجناء الإيرانيين في السجون العراقية يمثل قضية مهمة، وهي بحسب القانون من صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء العراقيين، وتتم متابعة هذا الموضوع بشكل خاص إلى حين تحقيق النتيجة المطلوبة".
وكان المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي ذكر في بيان في 9 فبراير، أن "الجانبين بحثا العلاقات الثنائية المشتركة وتعزيز التعاون في المجالين القضائي والقانوني بين البلدين، فضلاً عن مناقشة مواضيع أخرى".
ولا يبدو أن تلك العصابات تتحرك بمعزل عن دعم جهات سياسية نافذة، خصوصاً في ظل تكرار الحديث عن هروب المتهمين بتلك القضايا إلى خارج العراق بعد التوصل إلى معلومات بخصوصهم.
وفي هذا السياق، أوضح أستاذ العلوم السياسية عصام الفيلي أن "التغييرات التي أجراها الكاظمي في الأجهزة الأمنية في الفترة الأخيرة وفّرت مزيداً من الجدية في التعاطي مع هذا الملف، ويبدو أن هناك تحركات حقيقية لحسمه بعدما كان مجمّداً طوال الفترة الماضية". وأشار إلى أن "ما كان يجري في السابق هو اصطدام مساعي حسم تلك الملفات بمصدات داخلية متنفذة تمنع الإطاحة بتلك العصابات"، مبيّناً أن "الحكومة العراقية تمكّنت أخيراً من تحرير القرار الأمني من سطوة تلك الجهات من خلال التغييرات الأخيرة".
وبشأن المعلومات الواردة بخصوص هروب المتهمين إلى إيران وإمكانية تسليمهم، قال الفيلي إن حسم هذا الملف يتعلق بـ"طبيعة ارتباط تلك الجماعات بطهران"، مستبعداً إمكانية تسليمهم في ما لو كانوا ينتمون إلى جهات سياسية مقربة منها. وتابع أنه "حتى لو لم يكونوا مرتبطين بجهات سياسية مدعومة إيرانياً، فسيخضع تسليمهم إلى آلية تبادل السجناء بين الطرفين".
وختم أن "تسليم هؤلاء المتهمين قد يفتح الباب على تحقيقات أوسع تؤدي إلى أزمات كبيرة، إذ يرتبط هذا الملف بشبكات كبيرة متغولة داخل الدولة العراقية"، معبّراً عن اعتقاده بأنه "إذا سُلّموا إلى العراق، ستتم تصفيتهم من قبل جهات نافذة".
ويبدو أن حكومة الكاظمي تحاول من خلال تلك الخطوة تعزيز ثقة العراقيين بقدرتها على حسم الملفات الأمنية، خصوصاً بعد استمرار الجدل بشأن الانتخابات المبكرة وإمكانية إجرائها في ظل تنامي نفوذ الميليشيات المسلحة، ومرور فترة طويلة من دون قيام الحكومة العراقية بأي حسم في ما يتعلق بعمليات الاغتيال التي تطال الناشطين والصحافيين.
ورأى الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي أن "اعتقال خلية الموت في البصرة يبيّن عزم الحكومة على إعادة تعزيز ثقة الناخب العراقي بالانتخابات المقبلة، خصوصاً بعد الاستعراض الذي قامت به سرايا السلام، والذي أظهر عجز الحكومة عن تأمين الانتخابات وفق الشروط الدولية والمطالبات الشعبية".
وأوضح أن ما جرى يمثّل "انتقاءً نوعياً للطرف الأضعف"، مبيّناً أن "القضية ربما تشبه ما جرى من استهداف لسرايا الخراساني من دون الالتفات إلى بقية الأطراف الأقوى ضمن الميليشيات".
ولفت الشريفي إلى "وجود مسارين ربما يكشفان عن شكل المرحلة المقبلة في ما يتعلق بالإطاحة بتلك الجماعات، يرتبط الأول بإمكانية أن تكون تلك الاعتقالات حدثت إثر اتفاقات بين الحكومة العراقية وطهران، لكنها تبقى في دائرة عدم الاحتواء الكامل وعدم التوصل إلى الجهات الرئيسة التي تقف خلفهم. أما المسار الآخر، فيتعلق بإمكانية ارتباط تلك القضية بالشروط المفروضة على طهران بالنسبة إلى التخلي عن الجماعات المسلحة الموالية لها في المنطقة".
وختم أن "الفترة المقبلة كفيلة بالكشف عن حجم التفاهمات العراقية مع إيران بهذا الخصوص، في ما لو كانت واسعة أو ستكتفي بجهات معينة"، شارحاً أن "تخلي طهران عن أذرعها لا يتم عبر الإعلان الرسمي، بل من خلال صفقات تتبيّن ملامحها من خلال المعطيات على الأرض".
وعلى الرغم من التكتم الكبير من قبل الجهات الأمنية، تحدث مصدر أمني عراقي لوسائل إعلام محلية عن أن "عنصرين من العصابة اعتُقلا يوم الجمعة الماضي، واعترفا بالتورط في 16 عملية اغتيال متفرقة، أبرزها اغتيال الصحافي أحمد عبد الصمد والمصور صفاء غالي، إضافة إلى اغتيال محافظ البصرة الأسبق محمد مصبح الوائلي".
ونقلت الوكالات عن المصادر الأمنية قائمة بأسماء المعتقلين وهم "عقيل هادي - موظف في شركة نفط البصرة، حمزة العيداني - مفوض في الشرطة القضائية، خلف اللامي - طالب في كلية القانون وحيدر الربيعي (أبو جنات) - مدير شركة للمقاولات".
وبيّنت المصادر أن "المتهمين اعترفوا بالانضمام إلى مجموعة إجرامية خارجة عن القانون، يترأسها المتهم الهارب أحمد طويسة، وتضم متهمين آخرين هاربين، هم: خلف (أبو سجاد) وعلاء الغالبي وعباس هاشم وحيدر شمبوصة وأحمد عودة وبشير الوافي"، موضحاً أن "أقوال المتهمين صُدِّقت قضائياً".
وأفادت وكالات أنباء محلية، يوم الثلاثاء 16 فبراير (شباط) الحالي، نقلاً عن مصادر أخرى باعتقال متهم خامس من "عصابة الموت"، فيما أشارت المصادر إلى أن "فريقاً أمنياً توجه من بغداد إلى محافظة البصرة، مكوَّناً من أجهزة أمنية مختلفة يرأسها أحد كبار الضباط، ويجري تحقيقاً موسعاً مع عناصر عصابة الموت".
وشهدت محافظة البصرة جرائم اغتيال عدة منذ اندلاع "انتفاضة" أكتوبر (تشرين الأول) 2019، كان آخرها اغتيال الناشطة رهام يعقوب والناشط تحسين الشحماني في أغسطس (آب) 2020.
وكانت تلك العصابة اغتالت الصحافي العراقي أحمد عبد الصمد وزميله المصوّر صفاء غالي، في 10 يناير (كانون الأول) 2020. واشتهر الأول بمواقفه الحادة إزاء النفوذ الإيراني في العراق وتأييده لانتفاضة أكتوبر.
ولم تتوقف ضغوط الناشطين والمجتمع الدولي للكشف عن ملف قتلة المحتجين العراقيين، إذ يقدّر عدد ضحايا الانتفاضة العراقية بنحو 800 قتيل وأكثر من 25 ألف جريح.
ويُعدّ ملف الاغتيالات أحد أبرز الملفات الشائكة في العراق، إذ تُتهم جهات مسلحة نافذة بالوقوف خلفها، الأمر الذي يعقّد مهمة حكومة الكاظمي، خصوصاً مع الضغوط الكبيرة التي تمارس عليها في هذا السياق.
ويمثّل الإعلان عن اعتقال أفراد تلك العصابة بادرة أمل بالنسبة إلى العراقيين، في ما يتعلق بفرق الاغتيالات التي نشطت بشكل واسع بعد الانتفاضة العراقية، إذ إنها المرة الأولى التي يكشف فيها عن القبض على عناصر متورطة بقتل ناشطين.