محمد قواص
لم يكن صعبا استنتاج مغازي الاتفاق العسكري الذي أعلن عن إبرامه قبل أيام بين دمشق وطهران، ذلك أن التدخل العسكري الإيراني دعماً للنظام السوري منذ عام 2011 لم يجر بناء على اتفاقات ومعاهدات وبروتوكولات، كما أن الدفع بالأسلحة الثقيلة كما بالميليشيات الموالية المتعددة الجنسيات إلى سوريا لم يكن يعوزه مباحثات كثيرة أو اجتماعات بين وزراء الاختصاص.
فالقرار يأتي من رأس النظام في إيران الذي لطالما اعتبر مرشده علي خامنئي الجبهات في سوريا معارك تدافع عن إيران وأمنها.
سبق الاتفاق الأخير اتفاقات متراكمة خلال السنوات الأخيرة كان يحملها مسؤولون ووزراء من طهران إلى دمشق. وكانت تلك الاتفاقات تنذر في كل مرة بتحول انقلابي في الميدان السوري، ناهيك عما تعج به من رسائل للحلفاء قبل الخصوم في العالم.
غير أن العواصم المعنية لم تكن تجد في تلك الاتفاقات جديدا، وهي التي لم تعد -خصوصا بعد تفاقم التوتر في علاقات طهران بواشنطن- معنية برسائل إيران وما تستبطنه من تهديدات. والحال أن الإعلان عن الاتفاقات والمبالغة في الترويج لها إعلاميا بصفتها حدثا فوق العادة، بات جعجعة تضج بها العاصمتين دون أي يكون لها أي أثر على توازن القوى الحقيقي في سوريا.
لم تمنع اتفاقات دمشق-طهران إسرائيل من شن غاراتها على الارتال والمواقع والمراكز التابعة للقوى العسكرية والأمنية الإيرانية والتي تعتبر إسرائيل أنها تشكل خطراً على أمنها.
ولم توقف تلك الاتفاقات الضربات التي يشنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على التحصينات والتحركات الإيرانية والتي لطالما اعتبرها تجمعات إرهابية. كما أن هذه الاتفاقات والتلويح بفائض قوة إيراني جديد في سوريا لم يردع الطائرات "المجهولة" التي تقصف القوافل العسكرية التابعة لإيران كتلك التي تم القضاء عليها قبل أيام في منطقة البوكمال ودير الزور شرق سوريا.
تشعر إيران بقلق جراء التصدع الذي أصاب بنيانها العسكري والسياسي والذي بات يهدد تمددها في المنطقة. تعمل طهران حتى الحدود القصوى لمنع انتقال الضغوط العسكرية إلى الداخل الإيراني، مع العلم أن "الحوادث" الغريبة التي تسببت بحرائق وأضرار لمنشآت داخل إيران في الأسابيع الأخيرة، لا سيما تلك التي تعرض لها مفاعل نطنز النووي، يؤشر إلى انتقال الضغوط ضد الجمهورية الإسلامية إلى مرحلة متطورة يعي الولي الفقيه ومنظومة الحكم في إيران جسارة معانيها.
تدرك طهران أيضا أنها بصدد فقدان سطوتها التقليدية على العراق والتي باتت منذ عام 2003 من أبجديات الواقع الجيوستراتيجي في المنطقة.
وتتأمل إيران انقلاب الرأي العام العراقي ضد الحالة الإيرانية في البلاد، وتستنج عجزها عن إنتاج وسائل خلاقة ذكية للمحافظة على المكتسب العراقي. لم تعد إيران تعول إلا على سلوك الميليشيات العراقية الموالية لها، سواء في اعتماد سياسة القصف الصاروخي الذي يستهدف المصالح الأميركية الدبلوماسية والعسكرية، أو في انتهاج منطق القوة والقمع والقهر ضد الحراك الشبابي العراقي، أو بالانخراط في عمليات اغتيال طالت الناشطين المدنيين كان آخرهم الباحث في الشؤون الأمنية هشام الهاشمي.
يسقط نموذج إيران في لبنان كما يسقط في العراق. توقف العالم عن التعامل مع "دولة حزب الله" في بيروت. كان لبنان واجهة تطل منها إيران على العالم. من ذلك البلد أطلت طهران وحزبها اللبناني مقدمة للخارج نموذجا جديداً عملت على رعايته منذ ثمانينيات القرن الماضي. بات لبنان ميدانا لخطف المواطنين الغربيين وضرب السفارة الأميركية وثكنة المارينز.
ولئن تعايش العالم مع هذا النموذج واستمر في تغذية أوردته الاقتصادية، فإن تحولا كبيراً طرأ على المشهد الدولي، بحيث بات حزب الله على لوائح الإرهاب الدولية وغدت "دولته" معزولة عن المجتمع الدولي، وبحيث لم يعد أمام أمين عام الحزب إلا التبشير بخيار الشرق بقيادة طهران، وهو بالمناسبة خيار معدّل عن ذلك الذي بشّر به قبل أربعة عقود، حين أعلن العزم على إقامة جمهورية إسلامية في لبنان تكون تابعة للجمهورية الإسلامية في إيران.
تبدو حركة إيران العسكرية والسياسية بلا بركة. تفقد طهران استراتيجية منطقية في التعامل مع مأزقها. ترسل طهران رسائل مكثفة صوب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين تذكر فيها بالأوراق التي تمتلكها في المنطقة. تعقد اتفاقات صورية في سوريا، تخوض حرب الكاتيوشا والاغتيالات في العراق، تتمسك بحكومة تمثل "دويلتها" في لبنان، وتلوح بالصواريخ الباليستية من اليمن، تبلغ طهران موسكو أنها أساس في أي تسوية تعمل عليها موسكو في سوريا. وفي ما تود إيران الافصاح عنه من ضيق، يتضح كم أن إيران محشورة في جماد عقلية الحاكم بها، فيما العالم قد تغير وانقلبت تقاليده.