طارق أبو العينين
إذا كانت احتجاجات إيران وظّفت ثورة الاتصالات والبنية التكنولوجية والمعلوماتية الحديثة التي شكّلت تراكماً كميـــاً أداتياً أفرز تغيراً كيفياً في مجتمـــعات الشرق باتجاة طلب الحرية ونمـــوذجها الحداثي الديموقراطي على مستوى السلطة ومنظومة القيم الحاكمة للمجتمع، منطلقة كذلك من خلفية اقتصادية ناجمة مِن تردي أوضاع المعيشة، فإننا هنا نتحدث عن نموذج قد يبدو ظاهرياً مقارباً لانتفاضات الربيع العربي.
إلا أن هناك اختلافاً أساسياً أكثر تركيباً وتعقيداً يتعلق بالطبيعة الشمولية للنظام الإيراني، فهو ليس نظاماً تسلطياً تقليدياً كتلك النظم التي حكمت العالم العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، خصوصاً في مصر وتونس. فالنظم التسلطية تستخدم وسائلها للهيمنة على السلطة من دون المجتمع بخلاف النظم الشمولية العقائدية المؤدلجة التي تعنيها قضية الهيمنة على المجتمع والسلطة ممثلة بذلك، امتداداً لتقليد عقائدي وسياسي قديــم بزغ بظهور الفاشية والنازية عبر كتـــابات المنظر الألماني البارز كارل شميت وعلى رأسها كتابه «مفهوم السياسة» والذي امتد ليسم النظم الشيوعية أيضاً. لذلك كان من الطبيعي أن تكون وظيفة النظام الشمولي خلق مجتمع تؤثر فيه أيديولوجية الدولة والسلطة على معظم المواطنين، انطلاقاً من دور الشمولية التاريخي فى التمثيل والتوجيه الشامل للأمة والأهداف القومية وفق وصف منظر الفاشية الإيطالي جيوفاني جنتلي.
لذلك فإن النظام الإيراني ومنذ بدايته الجنينية، استمد شرعيته السياسية والتاريخية عبر ثورة شعبية فرزت قيادة روحية كاريزمية كالخميني، ومن ثم توافرت له أولى مقومات النظم الشمولية بطبعتيها الفاشية والنازية ممثلة فى الطابع الشعبوي المتماهي مع عبادة الجماهير لشخصية قائد أسطوري قدّم نفسه كمسيح مُخلص أو مهدي منتظر. وهو ثانياً لم يسمح بمساحات من التعددية وخصوصية الحياة الفردية الاجتماعية والفكرية التي تسمح بها النظم التسلطية بفعل افتقادها الأيديولوجيا التي تقلص للغاية من دورها التعبوي، فتجعلها تمارس سلطتها ضمن حدود معينة يمكن التنبؤ بها نسبياً، مقارنة بالشموليات المؤدلجة.
هذا في حيز رصد الشمولية الإيرانية وفقاً للحقائق الوجودية المطلقة التي انبثقت مِن المفهوم. أما في حيز رصد الشمولية الإيرانية في سياقها النسبي الإقليمي، فإن من المفارقات أن الشمولية الإسلاموية الإيرانية كانت أول شمولية دينية تحظى بتأييد مبكر جداً من التيارات القومية واليسارية العلمانية. فإذا تحدثنا عن موقف اليسار المصري بشقيه القومي والماركسي نظرياً وبشقيه السلطوي والراديكالي المعارض واقعياً، سنلمس هذا التأييد في كتابات محمد حسنين هيكل عن ثورة إيران وحواراته مع الخميني ودعوته التي ظلّ يرددها طوال حياته بضرورة التقارب وتجسير الهوة بين العرب وإيران، انطلاقاً من تعبير الثورة الإيرانية عن موقف معاد لأميركا. ولعل هذا هو سبب افتتان شاعر ماركسي معارض مثل أحمد فؤاد نجم بنموذج الثورة الإيرانية، انطلاقاً مِن عدائه الواضح لتقارب السادات مع أميركا. وتلك أظنها نقطة اختلاف فارقة بين النموذج الشمولي الديني الإيراني والنظم التسلطية التقليدية في مصر وتونس، لأن الأخيرة انسلخت كلياً من هذا الرافد القومي المناهض للإمبريالية، وخصوصاً النظام المصري الذي يُعتبر بحكم الشرعية وأدوات السلطة امتداداً لدولة حزيران(يوليو).
فوفقاً لتلك المعطيات يمكن القول باطمئنان إن احتجاجات إيران على رغم ألقها ووهجها وقفت على أرضية أكثر هشاشة من أرضية ثورات الربيع، لأن نظاماً شمولياً مُركّباً مزج بين الكليانية الإسلامية والقومية كالنظام الإيراني خلق ثلاث حقائق على الأرض تتناقض مع تلك التي خلّقتها تلك النظم التسلطية. وهو ما يُعقد ويُصعب مهمة الثوار في إيران. أولاها ضيق وانغلاق المجال العام مقارنة بمصر وتونس. وثانيتها الاستثمار المباشر لفكرة التقسيم المذهبي والطائفي، بل الانطلاق منها كمصدر للشرعية، بعكس التسلطية العربية التقليدية التي اقتصر دورها في هذا الملف على التواؤم الخفي والضمني معها والتنديد بها ظاهرياً. وثالثتها بناء شبكة تحالفات إقليمية ودولية تنطلق من تلك القومية الإثنية متدثرة بعباءة العداء لأميركا والغرب ومستثمرة حال الوله القومي القديم بالنموذج الإيراني الذي وجد من هذا المنطلق حلفاءً له في سورية ولبنان واليمن وروسيا. وهذا بعكس السلطوية التقليــــدية التي انهارت بمجرد رفع الغطــــاء الأميركي عنها. ومن ثم فإن الثورة المكتملـــة في إيران تعني نجاح المُحتجين في إسقاط نظام مؤدلج وهدم بنيته الاجتماعية والثقافية الطائفية ومواجهة شبكة تحالفاته الخارجية العنكبوتية. ناهيك عن مواجهة اتهامات التخوين والعمالة التي سيغرقهم فيها هذا النظام، انطلاقاً من عدائه التاريخي لأميركا. وهي أمور عجزت عن فعلها ثورات الربيع على رغم الظرف التاريخي والموضوعي الأكثر مواءمة والتحديات الأقل جسامة التي واجهتها مقارنة باحتجاجات إيران.
* كاتب مصري.