ها هي الشوارع تحترق مجدداً: يحطم المتظاهرون واجهات المتاجر، ويتم حرق السيارات وحاويات القمامة، ويمنع المحتجون الوصول إلى متحف اللوفر. باختصار، إنه مجرد يوم عادي في باريس، مدينة الحب... والشغب.
بينما تتعرض العاصمة الفرنسية لواحدة من موجات الفوضى الجماعية التي تشهدها بشكل دوري، من الصعب عدم التفكير في عديد من التجسيدات السينمائية لاتقاد التمرد. وتأتي الاشتباكات العنيفة التي أثارتها خطط تعديل نظام التقاعد التي طرحها الرئيس إيمانويل ماكرون هذا الشهر في إطار تقليد عريق جداً من الاضطرابات الملتهبة في فرنسا.
كان هناك اقتحام الباستيل في عام 1789. أنشئت كومونة باريس، أو الحكومة الثورية التي لم تعش طويلاً، وسط إراقة كثير من الدماء في عام 1871. ونظم الطلاب والعمال إضرابات ضخمة في مايو (أيار) من عام 1968، ثم شهدت الضواحي أعمال شغب في عام 2005، عندما أشعل الشبان المحرومون في الضواحي الفقيرة حالة من الفوضى. يمكننا سرد تاريخ هذا البلد من خلال احتجاجاته.
تشهد الدول الأخرى ثورات أيضاً، لكنها لا تنظم أبداً بنفس الحماسة الطبيعية جداً في حالة الفرنسيين. فقط في فرنسا يهاجم المزارعون مطاعم البرغر للاحتجاج على العولمة. فقط في فرنسا يتفاعل المواطنون مع ارتفاع أسعار الوقود من خلال ارتداء سترات صفراء وتثبيت حواجز عند الدوارات في الشوارع.
قد لا يبدو رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة ذريعة لتظاهرات جماهيرية تستمر لأسابيع، لكن المواطنين الغال الساخطين نزلوا إلى الشوارع للاحتجاج على أمور أقل أهمية من ذلك بكثير. من العدل إذاً أن ينضم صانعو الأفلام إلى القضية، وأننا سنرى قريباً أفلاماً عن المعركة ضد سياسات ماكرون.
أحياناً، يتطلع المخرجون الأميركيون والبريطانيون إلى ركوب عربة الثورة الفرنسية مدفوعين بالغيرة ربما. تبرز العربات التي كانت تنقل المساجين في فترة الثورة الفرنسية، والمقابر، والأرستقراطيون الفارون من أجل النجاة بحياتهم بشكل واضح في عديد من المعالجات لرواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز A Tale of Two Cities و"كزبرة الثعلب القرمزية" The Scarlet Pimpernel لبارونيس أوركزي، وكذلك في الأعمال الكوميدية الصاخبة مثل "واصل ولا تفقد رأسك" Carry On Don't Lose Your Head الصادر عام 1967. حتى إنه تم إنتاج أفلام غنائية، مثل النسخة السينمائية التي أخرجها توم هوبر من قصة "البؤساء" Les Miserables لفيكتور هوغو، حيث تستعرض أغنية انتفاضات باريس التي وقعت عام 1832.
في المقابل، احتفلت أعمال درامية مهمة لمخرجين بريطانيين بالأفكار الفلسفية وراء الحركات الثورية الراديكالية مثل فيلم "1871" للمخرج كيم ماكملين الصادر عام 1990، حول الانتفاضة الدموية التي أدت إلى كومونة باريس، و"مارا/ ساد" Marat/ Sade الصادر عام 1967 للمخرج بيتر بروك، وتدور أحداثه في مأوى للمختلين عقلياً، حيث يقدم السجناء مسرحية عن مقتل الراديكالي جان بول مارا.
حتى الأعمال الدرامية النفسية الحميمة مثل ثلاثية المخرج كريستوف كيزلوفسكي التي سيعاد إصدارها قريباً: "أزرق" Blue الصادر عام 1993، و"أبيض" White، و"أحمر" Red، الصادران عام 1994 - تدين بنجاحها إلى تقليد النزول إلى الشوارع. تستمد الثلاثية عناوينها وموضوعاتها من ألوان العلم الفرنسي وشعار الدولة الذي تكون وقت الثورة. يكمن ذكاء كيزلوفسكي في تجاهل السياسية والتركيز بدلاً من ذلك على كيفية تأثير مفاهيم مثل الحرية والأخوة والمساواة على أبطاله في حياتهم الشخصية.
تهتم السينما منذ بداياتها بصناعة أفلام تصور فرنسا تحت رحمة الاضطرابات الاجتماعية. إذا كنتم راغبين في فهم جاذبية مثل هذه القصص، فإن أفضل بداية ستكون مع الفيلم الميلودرامي الملحمي الصامت "يتامى العاصفة" Orphans of the Storm الصادر عام 1921 للمخرج دي دبليو غريفيث. وتدور أحداث الفيلم حول طفلتين يتيمتين (تجسدهما الأختان ليليان ودوروثي غيش) في أواخر القرن الثامن عشر في فرنسا، تعانيان أولاً على يد النظام القديم، ومن ثم على يد الغوغاء الثوريين.
هناك مشهد في بداية الفيلم يلخص نهج العمل. نرى ماركيز دي برايل الفاسد (يجسده مورغان والاس) راكباً عربته عائداً إلى باريس عندما تنحرف عربته وتقتل طفلاً في الشارع. يقول الماركيز الذي يرتدي منظاراً: "هل هو ميت؟ آسف... هذه للأم" وهو يرمي قطعة نقود معدنية بحركة عادية على الحشد. سرعان ما يوجه انتباهه نحو أمر أكثر أهمية ويسأل: "هل أصيبت الخيول؟".
يشير غريفيث باستمرار في فيلمه إلى عدم موافقته على الأرستقراطيين الفاسدين، لكن هذا لا يمنعه من الاستمتاع بإظهار الرفاهية والبهاء في البلاط، كما هو الحال في العديد من الأعمال اللاحقة التي تصور فرنسا ما قبل الثورة، بشكل واضح كما في فيلم "ماري أنطوانيت" Marie Antoinette للمخرجة صوفيا كوبولا (2006)، تظهر طبقات المجتمع العليا على أنها تعيش في حالة من المرح الأرعن والانحطاط. ترتدي النساء فساتين الحفلات والباروكات المجعدة المبالغ فيها، بينما يرتدي الرجال معاطف طويلة ويحملون العصي. ويتضور باقي سكان باريس جوعاً في الوقت ذاته، يقضون وقتهم في الرقص وتناول الطعام والاستمتاع بـ"العربدة الفاسدة".
بغض النظر عن تحفظاته على الأرستقراطيين، فإن غريفيث يتعامل مع الثوار بالقدر نفسه من التوجس. في بداية الفيلم، قارنهم بشكل صريح بالبلاشفة والفوضويين. جزئياً، يعد فيلمه قصة ترمز إلى الثورة الروسية التي كانت حاضرة أكثر على الأرجح في أذهان المشاهدين في أوائل عشرينيات القرن الماضي.
كذلك استخدم مخرجون آخرون الاضطرابات في فرنسا لصناعة دراما مبطنة عن القمع والفساد السياسي في أماكن أخرى. عندما أخرج المخرج البولندي أندريه فايدا فيلم "دانتون" Danton (1983) عن "الإرهاب" في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789، جاء فيلمه في وقت "الأحكام العرفية" في بولندا. تعرض قادة حركة التضامن للسجن والاضطهاد. اعتبر كثيرون أن الزعيم الشعبوي المحكوم عليه بالفشل دانتون (الذي لعبه جيرار ديباردو بحنق شديد) هو نظير ليخ فاونسا زعيم حركة التضامن.
كما بذل المخرجون قصارى جهدهم لتصوير الفوضى الثورية بشكل واقعي قدر الإمكان. "أريد منكم أن تعيشوا الحقبة كما لو أنكم كنتم هناك حقاً"، ناشد المخرج أبيل غانس مئات ممثلي الكومبارس الذين حشدهم من أجل مشاهد الثورة الفرنسية في فيلمه الملحمي "نابليون" Napoléon (1927). ربما كان الفيلم صامتاً، لكن هذا لم يمنعه من حث الحشود على غناء النشيد الثوري "لا مارسيليز" ما مجموعه "اثنتي عشرة مرة بحماسة متصاعدة"، كما كتب المؤرخ كيفن براونلو في كتابه عن صناعة الفيلم. أراد غانس أن يصدق ممثلو الحشود أنهم يشاركون في حدث تاريخي مزلزل. بالنسبة إلى التسلسل الذي يظهر جمعية اليعاقبة بقيادة ماكسيميليان روبيسبيير وهي تستولي على السلطة، كان لديه حشد يضم أكثر من 1000 شخص في حالة هياج، تم دمج صورهم مع لقطات لعاصفة بحرية.
عديد من الأفلام التي تتحدث عن الاحتجاج والثورة تمتلك طابعاً رومانسياً غريباً. الجنود والمدنيون الذين أسسوا الكومونة في فيلم "1871"، أو الطلاب والعمال الذين واجهوا الشرطة في معارك الشوارع في الستينيات، لا يقاتلون من أجل التغيير السياسي فقط. عندما لا يكونون على الحواجز، فإنهم يجربون أيضاً أفكاراً جديدة حول الحب والعلاقات. يسير الجنس والسياسة جنباً إلى جنب دائماً.
يحتوي فيلم "الحالمون" The Dreamers الصادر عام 2003 للمخرج برناردو بيرتولوتشي، وتدور أحداثه في باريس خلال الأيام العنيفة التي شهدها عام 1968، على مشاهد رجال الدرك وهم يضربون الطلاب التي لا بد منها، لكن اهتمام المخرج الحقيقي هو علاقة الحب الثلاثية بين الطالب الأميركي الشاب ماثيو (مايكل بيت) والزوجين الباريسيين الأنيقين والجميلين إيزابيل وتيو (إيفا غرين ولويس غاريل)، اللذين يصادقانه ويغويانه.
نسمع ماثيو يعترف في تعليق صوتي في بداية الفيلم: "كان بإمكاني سماع دقات قلبي... لا أعرف ما إذا كان السبب وراء ذلك مطاردة الشرطة لي أو لأنني كنت بالفعل مغرماً بصديقي الجديدين". نحن نرى الثلاثي بعد ذلك وهم يسيرون بجوار نهر السين ويتحدثون عن المخرج الأميركي نيكولاس راي ويأكلون خبز الباغيت، ويعيدون تمثيل مشاهد من أفلامهم المفضلة للمخرج جان لوك غودار.
بفضل مشاهده التي نرى فيها العشاق ينخرطون في أعمال الشغب معاً، يشبه الفيلم قصة خيالية لعشاق السينما. ربما يلقي ثيو وإيزابيل زجاجات المولوتوف على رجال الشرطة، لكنهما أكثر شباباً وجمالاً من أن يكونا مقنعين في دور الفوضويين القساة. وصف بيرتولوتشي غرين بأنها "جميلة جداً بدرجة غير لائقة"، وبدا مهتماً بإظهارها عارية وفي لقطات مقربة جيدة وتحت إضاءة واضحة أكثر من اهتمامه بمعالجة الصراع السياسي في تلك الحقبة.
بينما كان بيرتولوتشي يستكشف الجانب المثير للتجربة الثورية، صدم بعض المخرجين البريطانيين بإمكاناتها الكوميدية. عند مشاهدة كينيث ويليامز الشبق في دور قائد الشرطة تحت إمرة روبسبيير، الذي يحمل اسم "المواطن كاممبر"، في فيلم "واصل ولا تفقد رأسك"، وبيتر بترورث بصفته تابعه الأبله "المواطن بيديه" - من الصعب ألا تمتعض من السماجة المطلقة للنكات. يلعب سيد جيمس دور السير رودني فينغ، النبيل الإنجليزي الذي يتنكر في شخصية تدعى "الظفر الأسود" ويبدأ في إنقاذ الأرستقراطيين مثل دوك دي بومفريت (تشارلز هوتري) من المقصلة.
عندما كانت المنتجة البريطانية بيتي بوكس تعمل على نسختها الصادرة عام 1958 من "قصة مدينتين" التي تولى رالف توماس إخراجها، بذلت جهوداً كبيرة لجعل مشاهد المقصلة المصورة في فرنسا أصيلة قدر الإمكان. لم يكن القصد من الفيلم أن يكون هزلياً، لكنه بدا كذلك في بعض الأحيان. تم توظيف المئات من ممثلي الكومبارس، وتذكرت بوكس لاحقاً كيف هدد الكومبارس الأميركيون بتخريب المشروع. تقول: "كان علينا طلب القوات الجوية الأميركية من أجل زيادة أعداد جنودنا الفرنسيين في اليوم الكبير، ولما كان الحشد الفرنسي المكون من 700 فرد ينادون "الموت للأرستقراطيين"، صدمت أذناي بسماع الكتيبة الأميركية وهي تصرخ "اشنقوا المتشردين!".
على مدار الأعوام الخمسين الماضية، عانى البريطانيون اضطرابات عنيفة في الشوارع خاصة بهم، بدءاً من أعمال الشغب في بريكستون وتوكستث في الثمانينيات إلى أعمال الشغب المتعلقة بضرائب الاقتراع في أوائل التسعينيات وأعمال الشغب التي شهدتها لندن عام 2011، لكن لم يلهم أي من هذه الاضطرابات حتى الآن فيلماً رائعاً. في فرنسا وعلى النقيض من ذلك، أينما يتوجه المتظاهرون، سرعان ما تتبعهم كاميرات السينما. إن ميل الفرنسيين إلى التمرد، سواء في الحياة الواقعية أو على الشاشة، قد وضع أبناء عمومتهم على الطرف الثاني من القنال الإنجليزي في حالة مخزية لفترة طويلة.
سيعاد إصدار ثلاثية "ثلاثة ألوان" في المواعيد التالية: "أزرق" في 31 مارس (آذار)، و"أبيض" في 7 أبريل (نيسان)، و"أحمر" في 14 أبريل.