تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأيدي الرقمية الخفية هل تحول البشر إلى آلات؟

الروبوت
AvaToday caption
الانبهار بالذكاء الاصطناعي والروبوت لا يعكس إلا تزايد تهميش العمل البشري، إذ أن أسطورة إحلال التكنولوجيا الحديثة محل العمل البشري تعني تراجع صورة العمل النمطية والوظائف الرسمية واستبدالها بجيش غير مرئي من الأشخاص
posted onMay 17, 2022
noتعليق

يطرح كتاب "في انتظار الروبوت: الأيدي الخفية وراء العمل الرقمي"، تأليف أستاذ علم الاجتماع بتليكوم باريس (كلية الاتصالات اللاسلكية في العاصمة الفرنسية) أنطونيو كازيللي، ترجمة مها قابيل (دار المرايا للثقافة والفنون)، سؤالاً يبدو معاكساً للراسخ في الأذهان في ظل التقدم التكنولوجي المذهل الذي تعيشه البشرية في الوقت الراهن، وهو: هل سيحل البشر محل الروبوت؟ فكازيللي يلاحظ في كتابه هذا انتشار نمط من "العمل الخفي" الذي يقوم به بشر في خدمة التحول الرقمي على مستوى العالم من دون أن يتمتعوا بحقوق مادية عادلة نظير عملهم هذا، الذي يبدو أن لا غنى عنهم في أدائه حتى في وجود الروبوتات، ومن ثم فإنه يُنْظر إليهم على أنهم لا يختلفون عن الآلات الصماء في شيء، بل ربما يكونون أقل كلفة منها في نظر الرأسمالية الرقمية المهيمنة على إنتاج المعلوماتية في مجالات إنتاجية وخدمية مختلفة. وهكذا وبحسب ما ذهب إليه المؤلف استناداً على معطيات عدة، فإن "الآلات ما هي إلا بشر يقومون بعمليات حسابية"!

يطلعنا كازيللي في كتابه الذي حاز جائزة الكتابة الاجتماعية والجائزة الكبرى للحماية الاجتماعية عام 2019، على كواليس التطور المهول في عالم الذكاء الاصطناعي ومدى تأثيره على أشكال العمل المختلفة. فهناك شركات عملاقة تبيع الذكاء الاصطناعي ولكنها ليست من يصنعه، بل توكل هذه المهمة للعديد من "عرائس الماريونيت" التي تنجذب عبر خيوط غير مرئية نحو العمل غير الرسمي أو في ظروف مجحفة وفي ظل عدم اعتراف كامل بالجهود المبذولة. فالانبهار بالذكاء الاصطناعي والروبوت لا يعكس إلا تزايد تهميش العمل البشري، إذ أن أسطورة إحلال التكنولوجيا الحديثة محل العمل البشري تعني تراجع صورة العمل النمطية والوظائف الرسمية واستبدالها بجيش غير مرئي من الأشخاص.

يبحث كازيللي، الذي سبق أن أصدر كتاباً بعنوان "الروابط الرقمية" في العام 2010، عن الإنسان وراء العمليات ذات الشكل الآلي والتي في جوهرها، وفي حقيقة الأمر، هي من صنع الإنسان وموجَّهة للإنسان، ويزعم أن فكرة انتظار الروبوت هي أشبه بترقب ما لن يتحقق أبداً. حيث يتمسك بالمسمى الانجليزي للعمل الرقمي المبني على "نقرات الأصابع" Digital Labor   في إشارة إلى الأعمال الآلية في الذكاء الاصطناعي التي تتأسس على أصابع الإنسان وعدد الدقات التي يدق بها على أزرار الجهاز.

وما ينبغي الانتباه إليه في هذا الصدد هو أن لذلك "التطور" جذوراً ملموسة ترجع إلى ثلاثينيات القرن الماضي. ففي منتصف ذلك القرن أدار الرياضي البريطاني آلان تيورينغ برنامج أبحاث ضخم لصالح جمعية لندن الرياضية، بدأ عام 1936 مع مؤتمر عن "الأعداد القابلة للحساب"، ثم سطع نجمه بعد ذلك باثني عشر عاماً مع نشره دراسة بعنوان "الحاسبات الآلية والذكاء" منطلقاً من فرضية ستكون أساساً لأبحاث تالية عن الذكاء الاصطناعي، وتقضي بأنه لا يوجد ما يمنع مبدئياً من تطبيق المعايير نفسها على البشر وعلى الآلات على حد سواء، خاصة عندما يتعلق الأمر بتحديد ما إذا كانت الآلات يمكنها التفكير والإدراك بل وامتلاك الرغبة أيضاً. أو بمعنى لآخر: "أي إنسان يقوم بحساب قيمة رقمية حقيقية يمكن مقارنته بما تقوم به الآلة". والأخطر من ذلك هو احتمال تحول البشر إلى عبيد للآلات الذكية. وهو أمر يبدو أنه سيميز القرن الواحد والعشرين مقارنة بما سبقه من قرون.

وبحسب كازيللي، وهو أيضاً منسق سيمنار "دراسة الثقافات الرقمية" في كلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس، فإن السؤال الذي يفرض نفسه عن الآثار التكنولوجية على النشاط البشري ليس وليد اللحظة، مشيراً إلى أنه لم يبق من الشاعر اللاتيني أنيوس، سوى بضعة أبيات تنم عن قلق وجودي عظيم: "الآلة تمثل تهديداً ضخماً"، و"إنها تعتبر من أكبر الأخطار التي تهدد المدينة"، كما يرد في القصيدة. وبغض النظر عن أن التكنولوجيا المقصودة في خيال الشاعر هي مجرد محرك لمقعد حصان طروادة، وأن المدينة المهددة ما هي إلا مدينة بريام، فالواقع أن تأثير الأجهزة التكنولوجية على الحياة المشتركة لا زال هو التساؤل الذي يمر عبر حضارتنا من أصولها الأولى، والذي تتأجَّج به المخاوف القديمة بقوة. إنه الخوف من أن تقضي الآلة على الحياة، سواء أكانت الحياة المجردة أو الحياة المشتركة، والذي يتجسد في الآونة الأخيرة في الجدل الكبير حول هيمنة "الأتمتة" وقضائها على مفهوم العمل.

ويكمن حجر الزاوية في أوهام تدمير العمل البشري في خطاب "الإحلال الكبير" للآلات محل البشر والذي يرجع تاريخه إلى قرنين من الزمن. وقد كرَّس له مفكرو التصنيع الكلاسيكيون تحليلاتهم ومنهم البريطاني توماس مورتمي في كتابه "محاضرات حول عناصر التجارة" الصادر في 1801 والذي حذر فيه: "سيكون هناك نوع من الآلات مصممة كي تختصر أو تسهل عمل الإنسانية"، ونوع آخر "يهدف إلى استبعاد العمل البشري شبه كلياً". وقد آل الحال إلى أن الإحلال الوحيد الواضح في التحولات الرقمية الحالية هو التحول من العمل اليدوي إلى العمل بالأصابع (أو بالنقر) أي بصورة أدق هو العمل الرقمي الثائم على النقر. مع العلم أن إمكانية الاستعاضة عن العمال البشريين بحلول أوتوماتيكية كانت مجرد ملاحظة عابرة للكلاسيكيين البريطانيين، لكنها صارت في السبعينيات من القرن الماضي أقرب إلى نبوءة راديكالية تعلن عن نهاية العمل.

ولكن كيف للديجيتال لابور (العمل الرقمي) أن يضع على المحك فكرة العمل نفسها؟ هناك أنشطة لا يمكن فصلها عن الرقمية مثل إدارة حساب الفيسبوك وعمل قائمة تشغيل والإعجاب بمحتوى ما، إلخ. كلها أنشطة منتجة مرتبطة بالثراء، ولكن ليس بالعائد. المستخدم – المستهلك يشترك في سلسلة القيم ويتحمل بعض القيود بعيداً عن مسألة الدخل والتوزيع العادل للقيمة المتولدة، انتقال الأنشطة المنفذة في إطار العلاقات مدفوعة الأجر (مثل شراء تذكرة ثم طبعها بواسطة المستهلك) تظهر هشاشة التوافقات التي تصف نشاطاً ما بأنه عمل.    

وهكذا يجد كازيللي أن العمل الرقمي ليس نشاطاً إنتاجياً بسيطاً. هو علاقة تبعية بين فئتين من الفاعلين على المنصات، وهما المصممون والمستخدمون. ولكن إلى أي مدى يمثل العمل الرقمي نشاطاً يرتبط بالعمل؟ وهل ينبغي التعامل معه بصفته تحولاً جذرياً لفكرتنا عنه بحيث يتطلب الأمر تصنيفه تحت مسمى آخر بعيداً عن مسمى العمل؟ يقترح البعض مفاهيم مثل "هجين من العمل واللعب" playbor  أو "العمل والترفيه" weisure  مع التركيز على المكون الترفيهي لأنشطة معينة تتم على المنصات. ومع ذلك تتجاهل هذه المفاهيم عنصري المشقة والخضوع اللذين يظلان قائمين في عمل المنصات ويلقيان بثقلهما بشكل خاص على القائمين بالمهام الصغيرة في البلدان النامية أو العمال غير النمطيين للتطبيقات "عند الطلب" (القائمين بالتوصيل، وقائدي السيارات، ومنتجي الخدمات الشخصية). بالإضافة إلى ذلك فإن العمل "المجاني" والتطوعي لمستخدمي المنصات الترفيهية والاجتماعية يعتمد في حد ذاته على إخفاء عمل قطاعات واسعة من الوسطاء والعاملين بالنقر (أي أن يكون عملهم غير مرئي). إنه يكرر بعض أشكال مساومات القرن التاسع عشر قبل استحداث نظام المستخدمين، ويستعير سمات أخرى من "التبعية المحمية" التي ميَّزت العمل في الشركة. وهكذا يعد العمل الرقمي نشاطاً يمكن التعرف على بعض مكوناته المرئية (تقديم وجبة، ونشر مقطع فيديو عبر الإنترنت) في حين أن البعض الآخر يعتبره جزءاً من العمل غير المرئي يتعلق بإعداد المعلومات والبيانات وعلاجها.

ولكن ما السبيل الذي ينبغي أن نسلكه لنصل إلى إنترنت قائم على البشر يروج لمبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصاد الاجتماعي التضامني؟. يجب على المنصات التعاونية أن توفر لأعضائها أجراً لائقاً وأماناً في العمل وإطاراً قانونياً يحميهم وإمكانية نقل ضمانات الصحة وصناديق الادخار والحق في قطع الاتصال. ينبغي كذلك وضع الملكية الجماعية للمنصات في أيدي "الأشخاص الذين يولِّدون أغلبية القيمة" وإشراك العاملين في عملية برمجتها وفي إدارة تدفقات إنتاجهم لإنشاء نظام عمل شاركوا في تحديده. وهكذا، وفق كازيللي، يمكن إصلاح رأسمالية المنصات من ناحية؛ والمساهمة في التحول إلى منصة مسؤولة أخلاقياً عن التعاونيات التقليدية من ناحية أخرى. والتقارب بين هذين النهجين يعد أمراً مهماً جداً ولكنه قد يمثل أيضاً نقطة ضعف نظراً إلى أن البديل التعاوني يتطور بالتوازي مع الصعود العالمي للمنصات الرأسمالية. لذا فإن الخطر يكمن في أن هذا البديل يقتصر على إدخال بعض التنوع في مشهد العمل الرقمي، دون قلب النظام المعمول به حالياً. ومن ثم يمكن أن تظل الحركة ظاهرة متخصصة في مواجهة النهج الغازي لخصومها، أو حتى الاستيلاء عليها من قبل كيان يذهب في بعض الحالات إلى حد تمويل المنصات التعاونية بشكل مباشر.

ويلاحظ أن ترسانة القوانين النقابية، من ناحية، والطرح الليبرالي من ناحية أخرى، لا يقدم أي منهما حلاً مرضياً لمشكلة أجور العمل الرقمي. فالأولى تتجاهل الأبعاد غير المرئية لعمل المنصات، على حين يسهم الآخر من خلال تشجيع إعادة بيع البيانات بالقطعة، في التقليل من قيمة مساهمة المستخدمين. في عالم حلت فيه "الأتمتة" بشكل نهائي محل العمل البشري، سيكون الدخل الاجتماعي الرقمي أولاً وقبل كل شيء مصدراً رئيسياً للموارد الاقتصادية للأفراد وليس مكملاً للأموال التي يتم تلقيها من خلال قنوات أخرى. لذلك لن يكون بديلاً أو منافساً للمساعدة الاجتماعية. ينبغي دفع المنصات للتخلي عن الاحتكار والتخلي عن عدم شفافية تقنياتها، وبالتالي التخلي عن إخضاع العمل البشري للإكراه. فإذا أجبرت المنصات على دفع أجور للعمل الرقمي، بما في ذلك العمل غير المرئي، فسوف تساهم في تمويل ما هو مشاع بلا مقابل مجزي، ما قد يؤدي إلى حدوث تحول في نماذج أعمالها الحالية، التي ستصبح غير مربحة أو حتى غير مستدامة. من خلال التحول إلى النماذج غير الجشعة، لن يكون للمنصات الرقمية حجة بعد الآن للتلويح بشبح "الأتمتة" لتأديب قوة العمل. سوف تحقق إذن رسالتها الثلاثية الأصلية: إحلال الملكية الاجتماعية محل الملكية الخاصة، وتجاوز العمل الخاضع للعمل من دون إكراه، واستبدال حظائر التبعية  ببنيات تحتية مشتركة.