تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

هل يمكن الفلسفة أن تغير العالم؟

الفلسفة
AvaToday caption
الأتوبيات التي تكاثرت في الأعمال الأدبية والفلسفية أخذت تتوسط مقامين من مقامات الفكر: الفلسفة الإدراكية العقلانية المفهومية المتطلبة المنضبطة، والمخيال القريحي التفنني الإبداعي المتفلت
posted onNovember 18, 2021
noتعليق

يحلم كل إنسان بعالم جديد يشبهه ويشبه مرتقيات فكره وتوثبات وجدانه. كثير من الناس يسألون أنفسهم: هل كتب علينا أن نحيا في عالم ظالم مظلم، وفي مجتمع مضطرب سقيم، وفي سياق ثقافي تسيطر عليه أنظومة فكرية قاهرة؟ أفلا يحق لنا أن نغير العالم تغييراً يجعلنا نشعر بكرامتنا وبحريتنا ونبتهج بالحياة ابتهاجاً ينعش كياننا؟ لم المشادات والمنازعات والمهاترات والمعانفات؟ ما نفع الجبروت الفردي الذي يستهوي الذات الإنسانية المريضة حتى تنعم بإذلال الآخرين واستعبادهم وامتهان كراماتهم؟ أفليس في مستطاعنا أن نستبدل بهذا العالم هيئة وجودية جديدة تقنع الناس بأن الحياة رفق ووداعة، والوجود جمال ورقي، والزمان خصوبة وابتكار، والإنسان وعي مصقول، ووجدان محب، وعقل رزين، وروح نقي؟

الأتوبيا عمارة الرجاء الفكري

على وقع الأسئلة الوجودية البريئة هذه نشأت الفلسفة منذ أيام الإغريق تدهشها غلبة الوجود على العدم، وتربكها أمراض الإنسان النفسية والاجتماعية، وتستفزها مظالم المجتمع وانحرافاته، وتستنهضها مشيئة التغيير والإصلاح والتجديد والابتكار. من صلب الاجتهاد الفلسفي انبثقت الأتوبيا تتخيل العالم في صورة بهية تلائم حلم الإنسان ورغبته الشديدة في بلوغ نعيم الهناء الكياني الأشمل. يجدر بنا هنا التوقف عند معنى الأتوبيا التي ابتكر عبارتها في عام 1516 رجل القانون والفيلسوف السياسي الكاثوليكي الإنجليزي توماس مور (1478-1535)، إذ عرفها مكاناً منبثقاً من موضع لا وجود له على أرض الواقع. ذلك بأن الأتوبيا عمارة فكرية رجائية ترفض الواقع القائم، وتنتقد عيوبه وعوراته، وتستنهض المخيلة من أجل ابتكار عالم جديد تهنأ به الإنسانية، وتنتعش انتعاشاً كامل الأبعاد، وتنمو نمواً سليماً مبهجاً.

في كتاب الأتوبيا، يتخيل مور الإنسان عائشاً في جزيرة طوباوية تنتظم فيها الحياة انتظاماً مستقيماً عادلاً مبهجاً. من خصائص الجزيرة البهية هذه أن الناس فيها يبطلون الملكية الخاصة، ويزدرون المال والذهب، ويستقبحون الحسد والغيرة، ويجتهدون اجتهاداً جماعياً استثنائياً في العمل الكادح، ويعملون كلهم في سبيل الجماعة التي تضمن لهم المنعة والسكينة والانتعاش. من جراء إبطال مبدأ المنافسة الاستفزازية، يحيا الناس في سلام الوجدان ووئام الرباط الإنساني. لا ريب في أن مثل التنظيم الجماعي المشترك هذا استوحاه توماس مور من أسلوب الحياة الرهبانية المسيحية السائدة في العصور الوسطى. لذلك يصعب على الناس أن يتصوروا الحياة على هذه الهيئة من النضج الفردي والقناعة الذاتية والفضيلة الأخلاقية. ومع ذلك، ما برح كتاب الأتوبيا يحث الجميع على الاعتراف بإمكانات التغيير التي تنطوي عليها الحياة وينعقد عليها وعي الإنسان الراغب في التجاوز والإبداع والتجديد.

سقوط الأوهام الطوباوية على وقع الخيبات التاريخية

بيد أن الأتوبيات المتعاقبة في تاريخ الفكر الإنساني ما لبثت أن فقدت سحرها ورونقها من بعد أن سقطت التصورات الرجائية الأرضية الملكوتية التاريخية. كتب المؤرخ الفرنسي والباحث في الثورة الفرنسية فرانسوا فره (1927-1997) يحلل سقوط الأوهام الأيديولوجية، وفي مقدمتها الوهم الشيوعي. فأنشأ يقول في كتابه "ماضي وهم" (Le passé d’une illusion): "إن فكرة مجتمع آخر أصبح التفكر فيها مستحيلاً. وعلاوة على ذلك، ما من أحد، في عالم اليوم، يسوق لنا في شأن هذا الموضوع حتى مخطط مفهوم جديد. فها نحن أولاء قد حكم علينا بالعيش في العالم الذي نحيا فيه". يدل هذا القول على أن سقوط الشيوعية لم يقتصر على انهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة السياسية المقترنة به، بل أصاب كل أصناف الأتوبيات الكمالية الزاهية المتخيلة.

ومن ثم، فإن الأتوبيات التي تكاثرت في الأعمال الأدبية والفلسفية أخذت تتوسط مقامين من مقامات الفكر: الفلسفة الإدراكية العقلانية المفهومية المتطلبة المنضبطة، والمخيال القريحي التفنني الإبداعي المتفلت. ونشأ أيضاً نوع أدبي جديد يعزز مقام الحلم الجماعي في تصور هيئة الوجود الإنساني المقبل. في نطاق السياسة، انبرى معارضو وضعية العالم القائم ينددون بانحرافات الأنظمة الأيديولوجية المستبدة، سواء أتت من اليسار أو من اليمين. ولكنها في زمن العولمة الجامحة، يكثر مجيئها من اليمين النيوليبرالي التوحشي الذي يجرد الإنسان من كل قدرة على القرار الذاتي الحر، والاضطلاع المسؤول بقرارات الوجود الشخصية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

صعوبة التأثير المباشر في بنى الاقتصاد المتعولم

تجدر الإشارة هنا إلى أن الذين ما برحوا يؤمنون بتغيير العالم إنما ينتمون في معظمهم إلى اليسار الانتفاضي الذي يعتقد أن الاقتصاد العالمي يظلم المجتمعات الفقيرة ويحرم الإنسان الفرد من حقوقه الأساسية، ولو أنه يعزز مقام حرية المبادرة الفردية. غير أن المرء يحار في تناول قضية الحرية الفردية، لا سيما في قرائن التجبر الاقتصادي العالمي الذي يفرض احتكاريته الإقصائية فرضاً مبرماً. فكيف للإنسان الفرد أن يغير العالم، وقد انتهى الاقتصاد إلى كتل إنتاجية مغفلة صماء تستقطب جميع وسائل العلم والإنتاج ومواده وعبقرياته المختبرية الفردية والجماعية، وتفرض قانونها ومعاييرها وتصنيفاتها وأسعارها على السوق العالمية؟ إذا كان الاقتصاد محركاً أساسياً من محركات التاريخ، فكيف يمكنني أن أغير العالم تغييراً فاعلاً ملموساً، والاقتصاد يجتاحني في صميم وعيي وأعمق أعماق لا وعيي، فيخضعني لمقتضياته وأولوياته ومصالحه واستثاراته النفسية؟

حاول الفيلسوف الألماني- الأميركي هانس يوناس (1903-1993) أن يراعي انفطار الإنسان على التخيل الرجائي، فأقر بضرورة تغيير العالم، خصوصاً في ظل المخاطر التي تهدد البيئة الكونية برمتها. لا شك في أنه كان شديد الحذر من الأتوبيات، لا سيما الأيديولوجية الاستبدادية والعلمية التكنولوجية، وقد عاصر الانحرافات الشيوعية والنازية والفاشية والنيوليبرالية المتعولمة المتوحشة. غير أنه كان يؤمن بضرورة تغيير العالم انطلاقاً من العالم نفسه. لذلك كان جوابه الدائم مجبولاً على حكمة الاستفسار: أي عالم آخر نستطيع أن نستحدثه استناداً إلى واقعنا الإنساني في جميع أبعاده؟ ذلك بأن فكرة العالم الآخر تحمل في ذاتها مخاطر التضليل والتزييف، إذ إنها توحي للناس بأبشع أحلام العظمة جنوناً وإجراماً. من بعد أن تبحر في العرفان الغنوصي الذي يجعل الإنسان كائناً غريباً عن الأرض، يحج في الحياة حج المستنكف من حقائق الوجود التاريخية، أكب في كتابه "الحياة مبدأ" (Das Prinzip Leben) يبحث في بيولوجيا الإنسان والحياة العضوية، فيخلص إلى أن حقيقة الإنسان الأساسية ناشبة في صميم الحياة الأرضية. ذلك بأن مسكن الإنسان الأوحد العالم الطبيعي الذي يكتنفنا اكتنافاً والذي يتيح لنا أن نطبعه بطابعنا الأنثروبولوجي الثقافي البليغ. ومن ثم، لا يجوز لنا أن نحلم حلماً أتوبياً يخرجنا من دائرة الوجود الأرضي الفعلي، فيجعلنا نستقبح شروط وضعيتنا الجسدية البيولوجية اللصيقة بمحدوديتنا التاريخية.

ضرورة التوفيق بين المحدودية التاريخية وإمكانات التغيير الإصلاحي

لا بد، والحال هذه، من التفكر في العالم على وجهين متقابلين: أولاً، على طريقة الواقعيين الذين يعترفون بحدود الوضعية الإنسانية المقيدة بقرائن المكان والزمان؛ وثانياً، على طريقة الحالمين المعتدلين الذين يرسمون آفاق الإمكانات التغييرية التي ينطوي عليها العالم في قابلياته الذاتية المتفورة. يعتقد الفيلسوف الفرنسي إيڤ ميشو (1944-....)، المشارك في إنشاء جامعة كل المعارف (Université de tous les savoirs)، أن الفلسفة ينبغي لها أن تتفكر في عصرنا الراهن بالاستناد إلى آليات التصور التي تنشط في العلوم الافتراضية التخيلية (science-fiction) حتى تستطيع أن تدرك طاقات التغيير الممكنة الكامنة في صميم حركة التاريخ. ذلك بأن العالم الذي عرفناه انطوى ومضى إلى غير رجعة حين اجتاحتنا الرقميات المعلوماتية، والتقنيات الاستنساخية، والتحسينات البيولوجية الإلكترونية، والتواصليات الفضائية الذرية- الموجاتية، والعمارات الافتراضية الفاعلة في عمق البنى التنظيمية.

إذا كان الأمر على هذا النحو، فإن الإنسان أخذ يختبر طوراً جديداً من أطوار فعل التغيير التاريخي. عوضاً عن الاكتفاء بتغيير رغائبنا، على ما كان يذهب إليه أهل الحكمة الرواقية، ينبغي لنا أن نجاهد الجهاد الحسن في سبيل تغيير حقائق الظلم في الأرض، ووقائع التزييف في العلوم، وأحوال الانحراف في الاجتماعيات والاقتصاديات والسياسيات والفنيات. كان الفيلسوف التحليلي البريطاني برتراند راسل (1872-1970) يردد أن الفلسفة لا تستطيع أن تبني عمارة أخلاقية معصومة تتيح للإنسان أن يغير العالم تغييراً عميق الأثر: "إن فلسفة لا تروم أن تفرض على العالم تصور الخير والشر لا تكتفي بأن تملك أكثر من غيرها حظوظ بلوغ الحقيقة فحسب، بل تستوي في مقام أخلاقي أرفع من أي فلسفة أخرى، كالمذهب التطوري أو معظم الأنظومات التطورية، لا تنفك تمجد الكون وتستجلي فيه التعبير الأنسب عن المثال الراهن" (برتراند راسل، "الصوفية والمنطق"). لذلك ينبغي للإنسان أن يقتنع بقدرته على تغيير العالم، ولكن شرط التخلق بأخلاق المحبة الكونية والتزام مبادئ المعرفة السليمة. يرى راسل أن المعرفة، من دون محبة، باردة ظالمة؛ والمحبة، من دون معرفة، عاجزة يمكنها حتى أن تتحول إلى واقع مشؤوم. أما المحبة، فيعني بها الإرادة الحسنة الطيبة التي ترغب في مساعدة الآخر وتعزيز كرامته وترقية كيانه.

التفكير السليم شرط الإصلاح البنيوي الصائب

وعليه، لا يستطيع الإنسان أن يغير العالم إلا إذا غير ذاته وكيانه وإرادته وفعله وطبعه ومسلكه تغييراً مبنياً على أصول المعرفة الحق التي تحترم بنى الوجود الأساسية، وتصون إمكانات التحقق الذاتية المنغلة في الوعي الإنساني الأرحب. حتى في زمن العولمة النيوليبرالية الجارفة، نستطيع أن نؤالف بين التهذيب الخلقي النفسي الروحي الذاتي، والتقويم البنيوي المؤسساتي الخارجي. أشرف الناس لا يستطيعون أن يغيروا أمراً واحداً في بنى العولمة الكاسحة ما دامت قدرتهم التغييرية لا تصيب عمق الآليات الإنتاجية الظالمة. كذلك أفضل البنى التقنية وأعدلها وأشدها مراعاة لكرامة الإنسان الفرد والجماعة وحرصاً على سلامة البيئة والطبيعة لا يمكنها أن تضمن للاجتماع الإنساني الانتظام الهني والسلام المثمر، ما دامت أخلاق الناس العاملين فيها على خزي الانحطاط وعار الفساد. هيهات يكفينا أن نفكر تفكيراً فلسفياً سليماً حتى يتغير العالم، على حد قول أبي اليسار الكوني كارل ماركس (1818-1883). ولكننا أيضاً، بخلاف القولة اليسارية هذه، نعجز عن تغيير العالم ما دام فكرنا معتلاً، منحازاً، مصاباً بتشنجات العمى الأيديولوجي، وانقباضات التصلب العقائدي، وخشونات المبايعات الأنانية المنفعية.