أمير حيدر
علاقة إيران بتنظيم القاعدة غامضة وفيها مفارقة. فرغم أن هذا التنظيم التكفيري يمثل العدو الأيديولوجي الأشد للشيعة، الذين يفترض أن إيران تمثل دولتهم الكبرى في العالم، لكن علاقة هذا التنظيم السني المتطرف بتشكيلات الحرس الثوري الإيراني (باسداران) وبخلايا المخابرات الإيرانية (الاطلاعات) لا تبدو سيئة البتة. أمير علي حيدر يسلط الضوء لموقع قنطرة على "علاقة براغماتية تتجاوز العداء الطائفي" بين طرفين متضادين أيديولوجياً "جمعهما عدو مشترك".
تردد مير ميرزا رضا كثيرا قبل أن يفتح قلبه لحوار حميم معي. كان قد قضى 35 سنة من عمره البالغ 65 عاما في مخيمات اللاجئين العراقيين في إيران. هو مزيج أفغاني إيراني عراقي، وقد سفّرته حكومة البعث في العراق حال أن دبّ الخلاف مع إيران الشاه حول حقوق الملاحة في شط العرب في سبعينيات القرن العشرين. كنت أريد من هذا الشيخ العالمي الراضي بسجنه المجهول الأسباب أن يكشف لي سر النساء المنقبات وأطفالهن الذين وصلوا الى مخيم إبراهيم آباد للاجئين العراقيين الواقع شمال شرق أراك عاصمة المحافظة المركزية ( في نيسان عام 2002).
بعد أن قرأ "دعاء كميل" كاملا على مسمعي، مضى شوط طويل من ليلة الخميس، وصرنا نقترب من منتصفها. عليّ أن أعود الى طهران غدا صباحا لأنّ اجازة دخولي المخيم تسمح لي بالبقاء ليلة واحدة. وقد تواريت بصعوبة عن بيت (...) الذي اتخذت منه ذريعة لزيارة المخيم.
عائلة بن لادن في إيران
بكلمات تختلط فيها العربية البغدادية بالفارسية بنطق أفغاني غليظ قال مير ميرزا رضا:" هل سمعت بـِبن لادن؟ هنا جاؤوا بعائلته بعد أن حاصر الأمريكان مقره في أفغانستان. هؤلاء النسوة زوجاته، وبعض الصغار أبناؤه وبناته، والفتاتان الكبيرتان يقال إنهما بنتاه من زوجته الأولى".
"أفراد من عائلة بن لادن قضوا سنوات طويلة تحت الإقامة الجبرية في إيران": أصدرت محكمة باكستانية في (الثاني من نيسان/ أبريل 2012) أحكاما بالسجن 45 يوما ودفع غرامة قدرها 10 آلاف روبية (110 دولارات) بحق نساء من أسرة زعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن، بعد إدانتهم بدخول البلاد والإقامة بها بشكل غير مشروع. وقرر القاضي هذه العقوبات بعد محاكمة استغرقت شهرا. وصدرت الأحكام بحق أرامل بن لادن الثلاث، وهما سعوديتان ويمنية، وابنتيه.
تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية صدر في آذار/ مارس 2013 كشف أنّ بين هؤلاء فاطمة، ابنة بن لادن، و4 من أولاده هم عثمان ومحمد وسعد ( ومن العجائب أنّ اسم لادن الذي لا يملك أي جذور عربية يشير بالفارسية الى اسم زهرة تشبه النرجس). التقرير كشف أنّ المشار إليهم قضوا سنوات طويلة تحت الإقامة الجبرية في إيران، ولكن السلطات الإيرانية ضمنت لهم السلامة والحماية والسرية. مصادر التقرير أكدت أن الاحتجاز لا يعني بالضرورة السماح لهؤلاء بأن يتخذوا من إيران قاعدة لعمليات ترتبط بالإرهاب الدولي.
لم يفاجئني كلام مير ميرزا رضا، لكن الشكوك في مدى دقة كلام الشيخ العجيب ظلت تعيش معي أسابيع عدة. بعد أعوام، نُقلت القافلة الثمينة بعد تقسيمها إلى منطقة "تجريش" في طهران والى مجمع "برند" السكني الحديث جنوب مدينة كرج (عند رباط كريم)، ولأكثر من مرة شُوهدت السيدة الغامضة المخيفة التي ترافق القافلة العجيبة الملقبة بالدكتورة سهام - والتي يعتقد كل من يعرفونها أنها عميلة مزدوجة للمخابرات العراقية (في عهد صدام) والاستخبارات "الاطلاعات" الإيرانية- تنتقل بسيارتها التويوتا برادو مظللة الزجاج بين تجريش وبين معتقل كهريزك قرب مرقد الإمام خميني جنوب طهران.
ويمكن للمراقب الخبير بالشأن الإيراني أن يحدس ماذا تريد إيران من احتجاز هؤلاء اذا ما تذكر أسلوب الجمهورية الإسلامية في احتجاز الرهائن الأمريكيين حتى سقوط إدارة جيمي كارتر في الولايات المتحدة، واحتجازها قيادات المخابرات والاستخبارات العراقية حتى ثبت لها أن الغرب سيُسقط صداماً، فاطلقت سراحهم بصفقة غريبة في شباط من عام 2002 فيما كان التحالف الدولي يقرع طبول الحرب ضد نظام صدام حسين.
براغماتية تتجاوز العداء الطائفي
علاقة الجمهورية الإسلامية في إيران بتنظيم القاعدة غامضة. إذ أن هذا التنظيم يمثل العدو الأيديولوجي الأشد للشيعة الذين يفترض أنّ إيران تمثل دولتهم الكبرى في العالم. لكن علاقة التنظيم بتشكيلات الحرس الثوري (باسداران) وبخلايا المخابرات الإيرانية "الاطلاعات" لا تبدو سيئة البتة.
"ساعدت عناصرُ متنفذة في القاعدة، عناصرَ ناشطة من الجمهورية الإسلامية في إيران على النفوذ إلى السعودية والبحرين واليمن، وذلك بشكل لا يمت إلى المنطق بصلة في ظل حرب السعودية الضروس على إيران وحوثييها في اليمن. وهذه البراغماتية ليست غريبة بتاتا...فالمشروع السياسي الإسلامي الإيراني لم يأنف أن يتحالف مع اليساريين الملحدين لإسقاط الشاه، ثم انقلب عليهم وانفرد بالسلطة بعد أن صفّاهم بالقتل والسجن والتشريد".
فقيادة مكتب الارتباط الخاص بتنظيم العلاقات الإيرانية مع التنظيمات السنية المتشددة المسلحة والمسمى "قراركاه قدس" ، تتولى نقل وتمرير قيادات التنظيم من أفغانستان وإليها عبر محطاتها المنتشرة في باكستان إلى حد كبير وفي مناطق من العراق وجنوب لبنان وسوريا. العلاقة بين الطرفين يمكن وصفها بأنها صداقة لدودة. فالاثنان متباعدا الأهداف، مفترقا الطرق، متعاديان إلى حد التقاتل، لكن القاسم المشترك بينهما هو العداء لأمريكا وهو جسر يساعدهما دائما على تجاوز الخلافات لإلحاق أشد الضرر الممكن بـ "الشيطان الأكبر" .
ويمكن أن يُفسر هذا بأنه براغماتية الدبلوماسية الخارجية الساعية إلى تصدير الثورة الإسلامية وهو هدف مشترك للجمهورية وللقاعدة، حتى أن الجانبين غالبا ما يوحدان جهودهما وينسقانها باتجاه أعدائمها التاريخيين المفترضين. وفي مواقع كثيرة، ساعدت عناصر متنفذة في القاعدة، عناصر ناشطة من الجمهورية الإسلامية في إيران على النفوذ إلى السعودية والبحرين واليمن، وذلك بشكل لا يمت إلى المنطق بصلة في ظل حرب السعودية الضروس على إيران وحوثييها في اليمن.
هذه البراغماتية ليست غريبة بتاتا، فقد قامت الثورة الإسلامية في إيران "انقلاب 57 بهمن" بتحالف بعض الإسلاميين مع قوى اليسار الإيراني : حزب توده "الشيوعيون"، فدائيي الشعب (بجناحين)، مجاهدي خلق، اتحاد الطلبة الجامعيين في إيران، والجبهة الشعبية الإيرانية "جبهه ملى إيران"، وأجنحة من حزب العمال الشيوعي في كردستان إيران. ثم ظهر تحالف علماء الدين وحزب جمهوري اسلامي فيما بعد لموازنة كفة الأحزاب اليسارية. وهكذا فإن المشروع السياسي الإسلامي الإيراني لم يأنف أن يتحالف مع اليساريين الملحدين لإسقاط الشاه، ثم انقلب عليهم وانفرد بالسلطة بعد أن صفّاهم بالقتل والسجن والتشريد.
ظل إيراني في مقتل سعد بن لادن
يؤكد جوناثان إيال رئيس قسم الدراسات الأمنية في المعهد الملكي للخدمات المشتركة في بريطانيا أنّ إيران قد منحت اللجوء لعناصر عدة من تنظيم القاعدة بعد عام 2001، بما في ذلك عناصر من قياداتهم، مستدركا أن حق اللجوء لا يشمل بأي حال حق النشاط التخريبي أو السياسي أو (التبليغي بلغة الإسلام السياسي).
وذهب تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية صدر في نيسان/ أبريل عام 2013 الى أن صهر بن لادن المدعو "سليمان أبو غياث" قد أبعد من إيران إلى تركيا ومنها إلى الأردن حيث اعتقل وسُلم الى الولايات المتحدة الأمريكية ليواجه القضاء. وحقيقة أنّ إيران سلمته إلى تركيا بدلا من أن تسمح له بالتسلل إلى باكستان، كما سبق أن فعل عدة مرات خلال السنوات السابقة، تكشف عن توتر العلاقة بين السلطات الإيرانية وبين تنظيم القاعدة على خلفية دورهما في الحرب بسوريا وملابسات مقتل أسامة بن لادن.
وكانت رسائل عُثر عليها في (أبوت آباد) حيث قُتل أسامة بن لادن قد كشفت عن شكوك زعيم القاعدة في أن إيران تلعب دورا مزدوجا في المنطقة (متحالفة مع القاعدة والتنظيمات المتشددة السنية في بعض الأحيان، وواشية بها لمكاتب السي آي إيه المنتشرة في الشرق الأوسط عبر عملاء عراقيين وأفغان في أحيان أخرى). وفي هذا الصدد تحدث بن لادن عن دور إيران في الوشاية بابنه سعد الذي قتلته طائرة درون أمريكية أثناء عبوره الحدود من إيران إلى باكستان.
صحيفة "واشنطن بوست" في عددها الصادر في 12 شباط/ فبراير 2014 كشفت عن مغادرة أحد أكبر قياديي القاعدة الناشطين مؤخرا لأراضي إيران التي كان قد وصلها قادماً من أفغانستان عشية الهجوم الأمريكي على نظام طالبان عام 2001.
تقرير واشنطن بوست استند إلى معلومات صادرة عن مصدر في سي آي أيه رفض الإفصاح عن هويته واسمه، وهذه المعلومات كشفت أن مغادرة " ثروت شحاته" لأراضي إيران تثير أسئلة عن دوافع هذه الدولة في إرغام هذا العنصر المفصلي في قيادات القاعدة على مغادرة أراضيها رغم أنها قد آوته وغطت عليه طيلة عقد من الزمن.
نشر في قنطرة