ماجد كيالي
اجتاح سؤال من هو العدو: إسرائيل أم إيران؟ وسائط التواصل الاجتماعي، على خلفية انعقاد مؤتمر وارسو، الذي تم الترويج لاعتباره، لا منصّة تمهيدية لإطلاق ما يسمى “صفقة القرن” وحسب، إنما محاولة لإزاحة إسرائيل من خانة العدو، وإحلال إيران محلّها، في استنتاجات متسرّعة ومبسّطة ورغبوية، محمّلة، في الأغلب، بنزعات توظيفية، في ظل الاستقطاب السياسي والإعلامي الحاصل في العالم العربي.
وفي العموم، جاءت الإجابات من نمط السؤال ذاته، مبلبلة، ومشوشة، وإن بيّنت حالي عدم اليقين من جهة، والانقسام الحاصل في الرأي العام، من جهة أخرى، بحسب الانتماءات أو الانحيازات الجغرافية والسياسية والأيديولوجية، التي باتت تأخذ بعداً هوياتياً، على نحو ما بتنا نلحظ في كثير من القضايا في العالم العربي، أي من دون تفحّص، ومن دون رؤية الوجوه الأخرى للقضية المطروحة، بتاريخيتها وتعقيداتها وتأثيراتها.
ومع أن هذا السؤال خاطئ، على رغم انطلاقه من الإقرار بوجود حالة عداء مع الطرفين المعنيين، بسبب استهدافهما المجتمعات والبلدان العربية، وذلك بإيحائه بإمكان المفاضلة بينهما، أو استخدام أحدهما ضد الآخر، على ما درج في الدعاء الشهير: “اللهم اضرب الظالمين بالظالمين”، وهو أمر لا علاقة له بالسياسة، ولا بصراعاتها.
الآن، لنتفحّص الواقع، فهل نحن الذين نملك أن نعادي إيران، أو إسرائيل، أم أن كلاً من الطرفين شكّل حالة عداء لنا؟ أليست إسرائيل هي التي قامت على حساب شعب فلسطين (1948)، وشرّدت حوالى مليونين منه، ثم احتلت الضفة والقطاع وهضبة الجولان وسيناء (1967)، وتواصل قضمها أراضي الفلسطينيين في الضفة ببناء المستوطنات والجدار الفاصل والهيمنة على حياتهم، ومنعهم من حقهم في تقرير المصير؟ أليست هي التي أطاحت باتفاق أوسلو (1993) وقوضت “المبادرة العربية للسلام” (2002)؟
وبخصوص إيران، أليست هي التي أضحت مهيمنة في العراق بتسهيل من الغزو الأميركي (2003)؟ أليست هي التي أنشأت ميليشيات طائفية مسلحة في كل من العراق وسوريا ولبنان، وأسهمت في ذلك بتقويض البنى الدولتية والمجتمعية (على أسس طائفية) وتفكيكها في تلك البلدان، مقدمة خدمة كبيرة لإسرائيل، لم تستطعها منذ قيامها قبل سبعة عقود؟
الفكرة هنا، بخصوص إيران، لا تتعلق بإقناعنا نحن بأنها صديقة، وإنما يفترض إقناع حكام إيران بذلك، وضمنه التبجح بشأن الهيمنة على عواصم عربية (بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء)، وذلك بوضع حد لسياسات الهيمنة وإنشاء ميليشيات طائفية مسلحة، من نوع “فاطميون” و”زينبيون” و”عصائب الحق” وأبو الفضل العباس و”حزب الله”، ووقف قتال الشعب السوري وأجزاء من الشعب العراقي، وعرض العضلات على مكونات الشعب اللبناني الأخرى، ودعم ميليشيات الحوثيين في اليمن.
الآن، هل تمكن المفاضلة بين طرفين معتديين، أي إيران وإسرائيل؟ أو هل يمكن تحييد إيران، أو الاستثمار فيها لمواجهة التحدي الذي تمثله إسرائيل؟ أو هل يمكن الاستثمار في عداء إسرائيل لإيران، لمواجهة التحدي الذي تمثله لبلداننا ومجتمعاتنا في المشرق والخليج العربيين؟
واضح أن السياسة قد تشرّع ذلك، لانطوائها على البرhغماتية، ولأنها تبنى على المصالح والتقاطعات، ولو غير المباشرة، بيد أن الأمر ليس بهذه البساطة، أو السهولة، لا سيما أن الطرفين المعنيين ليسا على تلك الدرجة من السذاجة، أو القابلية، كما بينت التجربة.
بينت التجربة أن إيران نجحت طوال العقود الماضية في امتطاء قضية فلسطين، والاستثمار في ادعاءات مقاومة إسرائيل، وأنشأت “حزب الله” لهذا الغرض. مع ذلك لنلاحظ أن عوائد تلك المقاومة لم تضر بإسرائيل بقدر ما أضرّت بالفلسطينيين (الانقسام الحاصل)، كما أضرت بلبنان، وبصورة غير مباشرة بالسوريين والعراقيين.
ولنلاحظ أن مقاومة إسرائيل (من خلال حزب الله) توقفت منذ عام 2000، بعد انسحابها من الجنوب، حتى أن حرب 2006 أتت بعد خطف جنديين إسرائيليين، اعترف الأمين العام لـ”حزب الله” حينها بأنه لو كان يقدّر أن ذلك سيجرّ حرباً، لما تمت تلك العملية.
هذا مع التذكير بأن “حزب الله” لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل خلال سنوات الانتفاضة الثانية، وأن تلك العملية أتت للتغطية على اغتيال الرئيس الحريري (2005) وحسب.
وشكلت أيضاً محاولة الحزب استعادة هيبته بعد الخروج السوري من لبنان. ويفترض الانتباه إلى أن “حزب الله” لم يقم ولا مرة بعملية في عمق إسرائيل، ومجمل عملياته كانت في الشريط المحتل (1982ـ2000)، وعدد قتلى إسرائيل طوال تلك السنوات لم يتجاوز 860 قتيلاً، بمعدل سنوي قدره 45 قتيلاً، وهو لا يتناسب مع الدعاية التي أحاط الحزب نفسه بها، علماً أن متوسط عدد قتلى إسرائيل إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000- 2004) بلغ 225 قتيلاً، بينهم 42 قتيلاً عام 2002 لوحده، وهو نصف عدد القتلى الذين قتلوا في عمليات “حزب الله” في 18 عاماً.
الآن، ومع عشرات الضربات والغارات الجوية والصاروخية الإسرائيلية لمواقع إيران و”حزب الله” في سوريا، فإن إيران لم ترد، وحتى لم ترد على الغارة التي شنتها إسرائيل أوائل العام الماضي واستولت خلالها على أرشيف يتعلق بإنتاجها أسلحة نووية، والفكرة هنا أن إيران لا تريد مواجهة إسرائيل، ولن تشتغل على ذلك، وهي تريد الهيمنة في المشرق وحسب.
الأمر ذاته بالنسبة إلى إسرائيل، فهي، أيضاً، لا تريد حرباً ضد إيران، وإنما تريد تقليم أظافرها وتحجيمها خارج حدودها، بعدما استثمرت فيها، وحسب، وهذا يفسر أن الولايات المتحدة وإسرائيل سكتتا عن التدخل الإيراني العسكري في الصراع السوري، طوال السنوات الماضية، وأن التركيز على إيران لم يبدأ إلا في الفترة الأخيرة، وهذا طبعاً ليست له علاقة بتغير في الإدارة الأميركية، وإنما له علاقة بتغير سلم الأولويات والأجندات، مع تأكيدنا أن الولايات المتحدة هي التي سهلت لإيران التمدد والصعود في العراق وفي سوريا لهذا الغرض، أي غرض تفكيك مجتمعات في المشرق العربي، وإزاحة إسرائيل من خانة العدو.
الفكرة أن لا عدو يغطي على عدو آخر، ولا مظلمة شعب تغطي على مظلمة شعب آخر، فلا إيران تغطي على ما فعلته وتفعله إسرائيل، ولا إسرائيل تغطي على ما فعلته وتفعله إيران، لذا فإن نقاشاتنا وأفكارنا عن الأطراف الأخرى تخصنا وحدنا، ولكن الأمور لا تسير بحسب رغباتنا أو بحسب ما نعتقده.