نعلم أن فلسفة الأنوار التي بشّر بها فلاسفة من أمثال فولتير وديدرو وكانط، ظل تأثيرها قائمًا منذ القرن الثامن عشر وحتى هذه الساعة.
ومن رحمها ولدت تيارات فكرية وفلسفية وأدبية وفنية كثيرة مثل الفلسفة الوضعية مع أوغست كونت، والوجودية مع هايدغر وجان بول سارتر، وغيرها. إلاّ أن بعض المفكرين يعتقدون ان تأثير فلسفة الأنوار بدأ يشهد تراجعًا مُخيفا أمام احتدام العقائد الدينية، وأمام الشعبوية التي اكتسحت العديد من بلدان العالم بما في ذلك البلدان الأكثر تقدما وتطورا على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي.
وفي مقال له بجريدة "لوفيغارو" الفرنسية بعنوان: "هل هي نهاية الأنوار؟"، يرى المؤرخ والأكاديمي الفرنسي ستيفان راتّي بأن تراجع حرية التعبير التي يشهدها العالم راهنًا، والتي يمكن معاينته حتى في البلدان الأكثر ديمقراطية يعود أساسا إلى انسحاب العقل وتقلصه خلال العقدين الأخيرين من الألفية الجديدة.
ويقول ستيفان راتّي بإن الفيلسوف الألماني الكبير ايماونويل كانط أشار في مقاله الشهير: "ما هي الأنوار؟" الذي نشره في عام 1783 إلى أن الأنوار حركة دائمة الاستمرار تسمح للإنسان بالخروج من حالة عدم قدرته على استعمال عقله من دون الاستعانة بالآخرين، إلى حالة القدرة على استعمال عقله من دون الاستعانة بأي أحد لكي "يتجرأ على أن يعرف".
ومعلّقًا على مقال كانط، كتب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يقول بأن التنوير لا يتحقق إلاّ عندما يكون هناك استعمال كوني، واستعمال حر واستعمال عام للعقل".
ويضيف ميشال فوكو قائلاً بإن الجرأة على المعرفة وعلى التعبير عن الرأي لا تكون مضمونة إلاّ حين يعقد الحاكم "الطاغية" عقدًا مع المثقفين في المعنى الأوسع للكلمة، مانحًا إياهم هذه الحرية الأساسية".
ويعتقد ستيفان راتّي أن الوضع الحالي يُكذّبُ نقطة بنقطة كل أمال كانط. إذ أن الأقليات أصبحت تتحكم في الأغلبية وتفرض عليها آراءها وأفكارها وتقودها مثل القطيع.
وهناك كتب أصبحت تباع خفية، وفي المكتبات تغطى بالأسود حتى لا يراها القراء. أما الثقافة الرفيعة القادرة على ايقاظ العقول الخامدة، وبعث الروح في المجتمعات الراكدة فقد تمت محاصرتها بثقافة رخيصة ومبتذلة ومنحطة على جميع المستويات.
وبعد أن تبلّدت العقول والأذهان، أصبح بمقدور حكام العالم اليوم أن يتحكموا في الشعوب كما لو أنها قطيع يتوجب عليه الطاعة والامتثال. فإن تجرأ على التمرّد، تعرض لأسوا العواقب.
وإذن ويل للطفل الذي يحاول الخروج من البيت من دون مشورة، وويل للطالب الذي يعارض أفكار أستاذه، وويل للناشر الذي يتجرأ على نشر كتب لا تروق لمن استولوا على عقول الناس ليزرعوا فيها ما يريدون ويشتهون.