"الفن المقاوم"، و"المقاومة بالفن"، و"التصدي بالفن"، و"فن الثورة"، وغيرها عبارات عديدة أخرى تطلق على فن حديث، مثل دور التمرد المنبعث من بين المظلومين والمحرومين والمضطهدين، ليكون رسالة تعادل عند الحكومات القنابل والصواريخ المدمرة.
ذلك هو باختصار فن "الغرافيتي" الذي يتجسد في الشوارع والأبنية وأسيجة المباني الحكومية في بلدان مختلفة، عبر رسومات وكتابات لها طابع خاص، تميزت بالحرية غير المقيدة.
ظهرت هذه الطريقة التعبيرية أولاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً في نهاية الستينيات؛ حين اضطرّت مجموعات موسيقية في "الهيب هوب" إلى تفجير صرخات يشاهدها العالم بأسره على جدران المباني والجسور وفي عربات القطارات، كان ذلك لغايات احتجاجية بالأساس.
بدأ فن الغرافيتي كجريمة في بعض الدول، جريمة ضد السلطة أساساً، حينذاك أطلق عليه "فن الطبقات المحرومة والفقيرة"، التي تسعى للتعبير عن نفسها بواسطة هذا الفن، وأيضاً نظر إليها على أنها "شخبطات" ينفذها مخربون.
وصرفت البلديات وأصحاب العمارات الملايين لإيقاف هذا النوع من الفن، إذ كانت تعمل باستمرار على إزالة تلك الرسوم من خلال إعادة طلاء الجدران، دون جدوى؛ فاستسلمت تلك البلديات للأمر الواقع لتخصص بعض الحيطان للغرافيتي، تاركة إياها بعد تأطيرها لإبداع الرسامين.
وبعد انتشاره بشكل واسع على الجدران في مختلف المدن الأمريكية، أعلنت إحدى المجلات في نيويورك، عام 1973، مسابقة لاختيار أجمل رسوم "الغرافيتي"على عربات الميترو، وكان التفاعل كبيراً.
انتشر فن "الغرافيتي" في روما فيما بعد، وتحديداً منذ سنة 1979 بافتتاح الفنانَين "فريدي" و "لي كوينس" أول معرض مختص، فعرف هذا الفن وانتشر استخدامه في مجالات مختلفة كالدعاية والإعلانات، ليبدأ يأخذ نظرة جديدة بوصفه فناً يجسد أحاسيس الفنانين منتشراً بهذه الصبغة في مختلف البلدان.
لكنه وعلى الرغم من الصبغة الجديدة التي اكتسبها حينذاك، بقي الغرافيتي يمثل تمرد الشعوب، ويعبر عن رفضها للقمع.
وظهر هذا جلياً حين اتخذ الفلسطينيون الغرافيتي تعبيراً لرفض الاحتلال الإسرائيلي، ووسيلة من وسائل المقاومة الفكرية، ما جعل رسومات وعبارات تنتشر في مناطق مختلفة من الأراضي المحتلة محركاً للغليان الشعبي الذي لا يهدأ، وفي المقابل كان الغرافيتي هذا مثيراً لاستفزاز الإسرائيليين، إذ يرونه صورة معبرة لرفض وجودهم على تلك الأرض.
وكان الفلسطينيون ينشرون هذا الفن حيثما كانت مخيمات لجوئهم، ولطالما كانت خارطة فلسطين والأسلاك الشائكة وقبة الصخرة والكوفية الفلسطينية أبرز ما يرسم عبر هذا الفن المعبر عن المقاومة.
في عام 2000، حين قرّرت سلطات الاحتلال أن تعزل الضفة الغربية عن القدس والأراضي المحتلة عام 1948، تجلّى فن الغرافيتي بشكل كبير؛ إذ وجد الفنانون الفلسطينيون والعالميون في جدار الفصل العنصري مساحة واسعة للتعبير عن رفضهم للجدار ذاته وللاحتلال.
رافق الغرافيتي ثورات الربيع العربي التي انطلقت عام 2011، وبدأ الفنانون الشباب يعبرون عما يجول في نفوس شعوبهم من رفض للدكتاتوريات والظلم عبر هذه الرسوم في الأماكن العامة.
فهذا النوع من الرسوم أصبح بصمة تمثل الروح الثورية، والرفض، والمقاومة، لتتحول الشوارع لا إلى أماكن تحتضن المتظاهرين فقط، بل إلى معارض مفتوحة للرسم الثوري.
على الرغم من أن العديد من الأسماء في العالم برزت في مجال الغرافيتي، فإن "بانكسي" يبقى هو الأكثر شهرة، وهو يرسم لوحاته خفْيَة في شوارع بدول مختلفة، لكنه لا يتقاضى أي أجور منها، تاركاً دلالات عديدة في تلك الرسوم أبرزها رفض العنف والفقر والظلم، ومساندته الشعوب المضطهدة.
"بانكسي" اسم له عشاق ومعجبون في مختلف بقاع الأرض، لكن لا أحد يعرف شكله أو اسمه الحقيقي، أو أي تفاصيل خاصة عنه، وقد عُرف من خلال رسوماته في الشوارع.
ركز بانكسي في أعماله على الصور الشهيرة، ودمجها مع الشعارات، التي غالباً ما تتحدث عن الموضوعات السياسية، والحروب، والرأسمالية، والنفاق، والجشع.
وتشمل رسوماته أيضاً حيوانات وشخصيات بعضها معروف عالمياً، في حين يعتبر الأطفال موضوعات أساسية في رسوماته.
بالإضافة إلى ذلك فإن بانكسي عرف بإبداعه الكبير في فن التركيب والتشكيل، وقد ظهر ذلك في أعمال مختلفة.
فنان الغرافيتي الشهير يفاجئ جمهوره صباحاً باستمرار، حين تظهر رسوماته على جدار ما؛ فهو يتخذ من الليل وقتاً لمزاولة الرسم، وأوضحت أعماله أنه فنان برع في التخفي.
لا يعرف أحد من هو بانكسي، وكل ما يُعرف عن هويته أنه فنان بريطاني من مواليد بريستول عام 1974، وقد انتشرت أعماله ولمع نجمه في أواخر التسعينيات.
غموض بانكسي بهذه الطريقة لغز حقيقي، فكيف لفنان أن يبتعد عن الأضواء لهذه الدرجة، تاركاً شهرة أعماله العالمية بلا صاحب، وكيف له أن يترك رسوماته تُباع بملايين الجنيهات، ويحصدها غيره؟ فبانكسي فاز عام 2007 بجائزة أعظم فنان يعيش في بريطانيا، ولم يحضر لتسلم الجائزة وهو ما كان متوقعاً.
منذ بداية الألفية الثانية بدأت رسومات بانكسي تظهر في الشوارع، وتنتشر في عدة دول منها أستراليا وأمريكا وكندا والمكسيك.
مناصرته للقضايا الإنسانية أكدها برسومات مختلفة، فبانكسي كان له موقف واضح من قضية المهاجرين الذين دفعتهم ويلات الحروب إلى الهروب من بلدانهم، وأعرب عن رفضه لما يتعرض له المهاجرون بلوحات عديدة.
كذلك فإن القضية الفلسطينية كانت من بين أحد أهم اهتمامات بانكسي، إذ تحدث في لوحات له عن الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون على يد الاحتلال الإسرائيلي.
مرات عديدة زار بانكسي فلسطين، بل وصل إلى قطاع غزة ورسم مجموعة من أشهر رسوماته.
وعقب العدوان الإسرائيلي عليها في 2014، زار بانكسي غزة، حيث أصر على الوصول إلى هناك عبر الأنفاق، ورسم أعماله على جدران وأبواب البيوت المهدمة.
فضلاً عن ذلك نشر فيلماً قصيراً أشار فيه إلى أن عملية الجرف الصامد دمرت 18 ألف منزل، ساخراً من عدم السماح بدخول الاسمنت لقطاع غزة بعد العدوان، للفت أنظار العالم إلى ما يجري في القطاع.
وأعرب بانكسي عن سخطه من جدار الفصل العنصري، حين رسم عليه في أحد أعياد الميلاد السيدة مريم العذراء ويوسف النجار وهما يواجهان جدار الفصل في طريقهما إلى بيت لحم، بالإضافة إلى رسوم أخرى تتحدث عن الموضوع نفسه رسمها أيضاً على الجدار ذاته.