إبراهيم الزبيدي
نزعت إيران ثياب الدولة العاقلة المسالمة المؤمنة بالقوانين والأعراف المتبعة بين الحكومات والشعوب، والملتزمة بإقامة علاقات مع دول العالم الأخرى على أساس الاحترام والمصالح المتبادلة، وارتدت ثياب الدولة المتمردة، وغادرت مكانها الطبيعي بين الدول الصغرى، ووضعت نفسها بين قامات الدول الكبرى، رغم أنها لا تملك الأجنحة اللازمة الكافية للطيران في فضاءات الصقور والنسور الجارحة التي لا تحتاج إلى معين ولا رديف ولا حليف.
هذا التمرد لا يعود فقط إلى حكم الخميني، ولا وريثه علي خامنئي، فعلى مدار تاريخها العريق الطويل تمردت إيران، مرات عديدة، على قوانين الطبيعة، ولم تحسب حدود قدُراتها البشرية والعسكرية والاقتصادية الحقيقية، بواقعية وحكمة، وخدعها غرور القوة، وأغراها غضُّ نظر القوى الدولية المهيمنة الكبرى عن توسعاتها، وغفوة حكام دول جوارها، وضعفُهم وانشغالهم عن صيانة سيادة دولهم، وحماية أمن شعوبهم، فأقدمت على الخروج من حدودها، وأفلحت في ضم بعض دول في الإقليم إلى أملاكها.
لكنها كانت، في كل مرة، تبوء بالخذلان، وتخرج من مستعمراتها مهزومة، وتفقد جنودها وثرواتها وكرامتها، وحتى استقلالها. وأحيانا، تصبح، هي نفسها، مستعمرة ملحقة بأملاك منتصر جديد. وفي زماننا الحالي فشلت إيران الخميني في احتلال العراق بحرب دامت ثماني سنوات، من عام 1980 ولغاية 1988، وكلفت إيران والعراق مئات الألوف من القتلى والمشوّهين والمفقودين والأسرى، وقناطير مقنطرة من الأموال.
ولولا الغزو الأميركي للعراق في سنة 2003 وإعانة الاحتلال الأميركي للنظام الإيراني، عن خبث أو عن جهالة، على أن يحقق بالغدر والعمالة والتقية ما عجز إمامه الخميني عن نيله بقوة المدافع والصواريخ ومواكب الأطفال اليافعين الذين كان يعطيهم مفاتيح الجنة ويرسلهم إلى الموت حرقا بألغام صدام حسين.
ولا يشك اثنان في أن إحكام القبضة الإيرانية على العراق ساعَد نظام الملالي على الاستقواء في سوريا، والتمدد نحو لبنان وفلسطين واليمن، وحصار دول الخليج التي يحلم باحتلالها والهيمنة على ثرواتها.
وخلاصة القول هنا إن كل ما حققته إيران من هيمنة وتوسع في المنطقة لم يكن ليتحقق بجهودها الذاتية، وبقوة جيوشها، بل إنه كان بعون وإرادة وظروف وعوامل خارجية وفرت لها الأجواء المواتية. ولولا تلك العوامل القادرة الفاعلة لما توهم الإيرانيون بأن دولتهم اليوم أصبحت قوة قاهرة قادرة على مناطحة الدول والشعوب، كبيرِها وصغيرها وصار في إمكانها أن تُحيي عظام تاريخها الإمبراطوري الفارسي القديم وهي رميم.
وهنا يحق لنا أن نتساءل، هل تعتقد النخبة الحاكمة في طهران بأن في إمكانها تثبيت تواجدها العسكري والسياسي المهزوز والمحاصر والمهدد في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، والاحتفاظ به إلى أمد قادم طويل؟.
في التاريخ أمثلة عديدة على إمبراطوريات ضخمة عديدة أغراها التوسع السهل فبعثرت جيوشها في بلاد كثيرة فأصيبت بداء الترهل وسرطان التآكل الذاتي، وانهارت، وتناهبت الشعوب المستضعَفة أسلابها، رغم أنها كانت تُمول جيوشها من خيرات مستعمراتها، بوسائل وطرق متعددة.
الهيمنة الإيرانية الحالية تقوم على عكس ذلك تماما. فخزانة الدولة الإيرانية تتحمل وحدها جميع نفقات تأسيس الميليشيات والجحافل والأحزاب والتنظيمات، وأكلاف إعاشتها وحمايتها وتسليحها وتدريبها في الدول التي تستعمرها أو التي تحاول استعمارها، إضافة إلى ما تنفقه على استيراد السلاح، والخبرات الأجنبية المساعدة على تصنيعه، وما تدفعه لشراء ذمم رؤساء جمهوريات ورؤساء وزراء ووزراء ونواب وسياسيين وإعلاميين لتسهيل الاحتلال.
إن هذه الأعباء الإنفاقية اليومية الباهظة التي لا مهرب منها، خصوصا في ظل عقوبات الرئيس الأميركي القاتلة، وحشوده العسكرية الخانقة، واستنفار دول عربية وإسلامية مهمة عديدة لمحاصرة إرهابها المتوقع، قد أصبحت عبئا ثقيلا جدا على خزانة إيران التي تعاني أصلا من خلل يحاول نظام الملالي إصلاح بعضه، وهو أقرب ما يكون إلى مستحيل.
إذن، فمثلما حقق الإيرانيون انتصاراتهم في دول الجوار، بعوامل خارجية مساعدة مواتية، فإنهم اليوم يرونها وهي تتحول إلى هزائم، بنفس تلك العوامل الخارجية المساعدة المواتية، أيضا، دون ريب. يضاف إلى ذلك عامل آخر داخلي أكثر فاعلية وحزما وحسما في إرباك النظام، متمثلا في انهيارات العملة، وتدهور حالة الاقتصاد، وتوقع انتفاضة شعبية غاضبة بسبب الفقر والحاجة، واضطرار النظام إلى زيادة إنفاقه على حماية أمنه الداخلي خوفا من غضب الجماهير المتوقع، الأمر الذي يضاعف فقر الجماهير في الداخل، ويقلل أو يقطع إنفاقه على أذرعه الخارجية في سوريا والعراق ولبنان واليمن وفلسطين وأفغانستان وباكستان.
مع تكاثر أعدائه، وتجمعهم وصمودهم، وإصرارهم على مواجهته بكل الوسائل المتاحة. وقمم مكة على ذلك أكبر دليل. إن هذا هو منطق التاريخ الذي لم يتبدل، ولن يتبدل، إلى أبد الآبدين.
كاتب عراقي