مر أكثر من 40 عاماً على قيام الثورة الخمينية سنة 1979 وإعلان إيران جمهورية إسلامية مؤسسة على نظرية "ولاية الفقيه"، وانقسام المجتمع الإيراني إلى قسمين، قسم معارض غادر البلاد أو بقي فيها، وقسم مؤيد داعم للثورة الخمينية، لكن لم تسكت الأصوات المطالبة بالحرية والتغيير، والمنددة بالممارسات القمعية العنيفة التي تمارسها الأجهزة الأمنية. آخر هذه الأصوات حملتها دراسات وروايات صدرت في فرنسا، كتلك التي أصدرتها لدى دار "لا ديكوفرت" في باريس، الباحثة الإيرانية الفرنسية في مجال الأنثروبولوجيا، والعاملة في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية شورا مكارمي، وهي بعنوان "المرأة، الحياة، الحرية"، وهو الشعار الذي أطلق في 16 سبتمبر (أيلول) 2022، رمزاً للتظاهرات التي أعقبت وفاة الشابة مهسا أميني البالغة من العمر 22 عاماً، بعد توقيفها على يد شرطة الأخلاق في طهران، بسبب عدم ارتدائها الحجاب بطريقة لائقة.
في هذه الدراسة وثقت مكارمي عاماً من الاحتجاجات التي انطلقت ضد النظام الإسلامي وانتشرت في كل أنحاء البلاد، حتى وصل صداها إلى العالم أجمع. وقد كانت مشاركة النساء فيها واسعة، كأن قام البعض منهن بخلع الحجاب وإضرام النار فيه أو قص شعرهن. وطالب المتظاهرون والمتظاهرات بإسقاط النظام. واجهت السلطات هذه التظاهرات الاحتجاجية بقمع شديد ورقابة صارمة على شبكات التواصل الاجتماعي، كان من نتيجتهما سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى. إلا أن صور هذا التحرك، رغم الرقابة الشديدة، اجتاحت العالم وغزت شاشات التلفزة وصفحات الجرائد والمجلات.
تقول مكارمي المقيمة في باريس، إن الحاجة إلى أرشفة هذه الأحداث التي استعرت على مدى عام، أمر ضروري للغاية، لا سيما أنها هي نفسها كانت من أكثر المتابعين لأخبار هذه الانتفاضة الشعبية من خلال مشاهدة الصور وأفلام الفيديو التي سربت إلى الخارج، وقد صورها مواطنون عاديون بهواتفهم المحمولة. وإذ تعترف أنها لطالما أعادت مشاهدة هذه الأفلام والصور مراراً وتكراراً، مثلها مثل الملايين من الإيرانيين المنتشرين حول العالم، فإنها قررت جمعها في كتاب وثائقي يحفظ "أثار" هذه الاحتجاجات النضالية أو "حولياتها" بطريقة علمية وغير مسبوقة، بعد أن قامت بمقاربتها من زاوية أنثروبولوجية، من دون أن تنسى أن ترفق هذه الدراسة بذكرياتها الشخصية والعائلية، هي التي سجنت والدتها وعانى جدها من مصاعب لا تحصى بسبب من معارضته للحكم.
شورا مكارمي، التي ركزت في أبحاثها العلمية على دراسة أنثروبولوجيا عنف الدولة وأشكاله القانونية واستخداماته الاجتماعية والمنافسات السردية في سياق الإفلات من العقاب والذكريات المضادة لسردية النظام، تعرف بشكل مضاعف، من خلال دراساتها الأكاديمية وتاريخها العائلي، ملحمة السلطة والمقاومة الإيرانية التي يكتب كل يوم فصل جديد منها. وقد توسعت في دراستها العلمية هذه لتتناول كل النضالات التي طالبت بالتغيير في وطنها الأم، منذ قيام الثورة الخمينية وخروج الشاه محمد رضا بهلوي وتأسيس الدولة الإسلامية، متوقفة أمام عدد من الانتفاضات والاحتجاجات العنيفة التي طالبت بتغيير النظام، وصولاً إلى تلك التي اندلعت إثر مقتل مهسا أميني وغيرها من الانتفاضات والاحتجاجات التي أجهضت، أو باءت بالفشل. ففي مقابلة معها نشرت في صحيفة "لوموند" الفرنسية، اعترفت مكارمي "أن الدولة الإيرانية لم تعد "دولة زومبي" وأن النظام ما زال موجوداً وفاعلاً، إلا أنه اهتز بقوة، لكأنه مات بالفعل"، مضيفة أن "الجمهورية الإيرانية لم تستطع سحق التوق إلى الحرية عند "بقية" من الشعب الإيراني أفلتت من قبضتها". من هنا كان من الضروري برأيها "العمل على حفظ "الأرشيف والذاكرة المضادة" للنظام في سردية جماعية تمثل حقيقة ما يجري بعد أن صادرت الجمهورية الإسلامية الثقافة والخيال والأفكار والسرديات المعارضة لخطابها لعقود عديدة". تقول مكارمي إن "المجتمع الإيراني يطمح إلى ديمقراطية حقيقة، ويطالب بها بطريقة إبداعية، وإن العنف الذي يمارسه النظام متأت من خوفه وضعفه".
قابل صدور هذا العمل التوثيقي العلمي الساعي إلى فهم الحركات الاحتجاجية في إيران صدور كتاب بعنوان "في شوارع طهران" عن دار كالمان ليفي في باريس، يروي "من الداخل" شهادة عيان لكاتبة إيرانية رافقت يومياً الأحداث والتظاهرات الاحتجاجية، لكنها نشرت كتابها في الخارج تحت اسم مستعار هو "نيلا".
يعبر هذا الكتاب بقوة عن توق الإيرانيين إلى الحرية وعشقهم لثقافتهم ولغتهم الفارسية. فيه تروي الكاتبة قصص الإدانات التعسفية والإعدامات والاغتصابات التي تعرض لها المحتجون والمحتجات، كشهادة على غضب الشعب الإيراني ونفوره من النظام الذي تفرضه الجمهورية الإسلامية، علماً أن نيلا تقول في كتابها هذا إن النفور من الحكم لا يكفي وحده لإنهائه، لكنها تشدد في الوقت عينه على الفرح الذي تشعر به عند رؤيتها هذا العدد الكبير من النساء اللاتي تجرأن على الخروج بلا حجابهن. وقد نجحت الكاتبة في الربط بين الأوضاع القائمة في إيران والمطالبات المشابهة الداعية للتغيير والحرية وإنهاء النظام البطريركي المرتبط بتأويل معين للدين، والتي بدأت أصواتها تسمع في بلدان مختلفة حول العالم، مما جعل برأيها كل هذه النضالات من أجل حرية المرأة والأقليات قاسماً مشتركاً بين الشعوب المختلفة، بغض النظر عن الحدود التي تفصل بينها.
ولئن واصلت نيلا تدوين مشاهداتها ونضالها من قلب إيران، فإن شورا مكارمي تابعت من مكان إقامتها خارج البلاد توثيق هذه المشاهدات والنضالات وتفسيرها، في تأكيد أن الحدود لا تلغي الاندفاع المشترك الذي يحمل هذين النصين. فمنذ الصفحات الأولى لكتابها، تعترف نيلا بأنها تحاول، في جولاتها اليومية في شوارع طهران، ليس استشراف "مصير الحركات أو الثورات الناشئة" ضد النظام فحسب، بل البحث عن "الأمل" الذي يجعل من الغضب أشد وقعاً من الخوف، فتكسر القيود ليتبدى وهن الحكم المعتقد احتكار المعرفة والحق في رسم مستقبل البلاد والعباد.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن هذين الكتابين اللذين ينبضان بنفحات أمل، يحملان بعداً عالمياً. تقول شورا مكارمي متوجهة إلى الغرب إنه "لا يكفي أن يقابل التاريخ الذي يكتب في إيران من قبله بالتصفيق، بل يحتاج من العالم أجمع أن يردد، بمعنى ما، أصداء هذه النضالات في مواجهته للتحديات التي تتعرض لها المجتمعات كافة، وأن يتوقف عن السؤال هل كان من الممكن التعويل على ثورة في إيران أو على انتصار أوكرانيا في حربها على روسيا، أو حتى على ظهور حكومات جديرة بالاهتمام في أوروبا وأميركا، حكومات على قدر التحديات والقضايا الإنسانية والبيئية الكبرى".
أما الكتاب الثالث الذي نشر أيضاً هذا العام للروائية وكاتبة السيناريو والمخرجة والمؤلفة الإيرانية الكندية نيغار دجافادي المسمى" المكان الأخير"، الصادر عن دار ستوك في باريس، فيتناول بالشرح والتحليل خطاب النظام الإيراني المتعلق بسقوط الطائرة المدنية الأوكرانية سنة 2020، التي قضى فيها 176 شخصاً، من ضمنهم قريبة لها، والذي أتى بحسب النظام بسبب "خطأ بشري لا يغتفر" وإعلانه مواصلة التحقيقات "لمحاسبة المسؤولين" عما حدث. ونيغار دجافادي التي غادرت بلادها عندما كانت في العاشرة من عمرها، تكشف في هذا" التخييل الذاتي" أو "الأوتوفيكسيون" عن مآسي الإيرانيين في سياق التوترات الشديدة بين بلادهم والولايات المتحدة الأميركية ومعاناتهم مع نظام " ولاية الفقيه"، من خلال رواية قصة قريبتها نيلوفر الصدر، التي توفيت بعد أن كانت من عداد ركاب هذه الرحلة المشؤومة، في حبكة كتابية تستخدم ضمير المتكلم. ترى دجافادي أن إسقاط هذه الطائرة كان أيضاً أحد الأحداث التي أسهمت بتأجيج نار الاحتجاجات ضد النظام الإيراني. فتفضح في كتابها أكاذيب السلطة وسردياتها المتعلقة بإسقاط الطائرة، والتي لم تعد برأيها تنطلي على أحد.
تقدم لنا هذه الكتب الثلاثة، صورة قلما وصلت إلى القراء عن بلد يعاني أزمات وهزات سياسية، لكنه يخفيها برقابة صارمة. وعلى تتالي صفحاتها، نتعرف ليس فقط على أحداث وخطابات، بل على علاقة الباحث والكاتب بمجتمعه، ووعيه ما يجري في وطنه وما يخص شعبه وما يخفى على الآخرين، بكلمات معبرة تكشف عن روح الشعب الحقيقية. وهذا ما يذكر بقول الفيلسوف الألماني نيتشه: "من لم يحيَ لكشف الحقيقة كاملة لن يكون كاتباً بل يكون أفاكاً مزوراً لا قدر له ولا مقام"، ذلك أن "الكاتب الحقيقي يملك وحده القدرة على إيقاظ قوة الفعل الراقدة في نفوس الآخرين"، فكيف إذا كان الكاتب كاتبة، بل كاتبات تستحق أعمالهن القراءة، لنقلها لنا أصواتاً إيرانية لم نعتد على سماعها منذ مدة طويلة؟