حسن فحص
قبل سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، وقبل انطلاقة الحركة الاحتجاجية على مقتل الفتاة مهسا أميني، كانت منظومة السلطة بكل تسمياتها، من الدولة العميقة إلى مختلف أجنحة التيار المحافظ، تعتقد - هذه المنظومة - أن الأمور وصلت إلى مرحلة لم تعد تواجه تحدياً اسمه القوى والأحزاب الإصلاحية والمعتدلة، وذلك بعد أن حققت عليها انتصاراً بالضربة القاضية أخرجتها من مواقع القرار في السلطة التنفيذية والحكومة وإدارات الدولة، فضلاً عن أنها لم تسمح لهذه القوى المعارضة بالحصول على أدنى مستوى من التمثيل في الانتخابات البرلمانية في الانتخابات التي أجريت عام 2020، التي حولها النظام والتيار المحافظ إلى عملية تكرس فرض سيطرته التامة على جميع مقاعد السلطة التشريعية.
وقد استكملت المنظومة تكريس سلطتها من خلال هندسة الانتخابات الرئاسية بإيصال مرشحها إبراهيم رئيسي إلى رئاسة الجمهورية، فاخترعت له معركة انتخابية أصرت فيها على وجود عبدالناصر همتي حاكم البنك المركزي الأسبق كشخصية إنفلونزا محسوبة أو ألصقتها بالتيار المعتدل المقرب من الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني، وعمدت، في المقابل، إلى تنظيف الطريق أمامه من خلال سحب المرشحين المحسوبين على المنظومة الذين قد يشكلون تهديداً أو تحدياً له مقابل صفقات بتسليمهم مناصب في هرمية القرار إلى جانب الرئيس، وسمحت للذين لا يملكون قاعدة شعبية بالاستمرار في السباق، وذلك من أجل إضفاء طابع ديمقراطي وتعددي على العملية الانتخابية.
في هذه المرحلة، كان مجلس صيانة الدستور من خلال لجنة دراسة أهلية المرشحين، قد أسقط كل الاعتبارات في التعامل مع مرشحين للانتخابات الرئاسية وقبلها البرلمانية، ولم توفر مقصلته أقطاباً تاريخيين من قيادات التيار المحافظ كرئيس البرلمان الأسبق علي لاريجاني الذي فرض عليه عدم الترشح في الانتخابات البرلمانية، وأسقطت أهليته للانتخابات الرئاسية، ودفع ثمن الصفقة التي أبرمت خلف الكواليس وفي الغرف المظلمة لإيصال رئيس ضعيف لا يملك مشروعاً أو رؤية تعترف بالحد الأدنى بالآخر المعارض الذي لا يعادي النظام ودستوره.
وفي اللحظة التي اعتقدت المنظومة الحاكمة أنها استطاعت الوصول إلى النقطة التي تستهدفها بإنهاء حالة الصراع بين ثنائية النظام ومنتقديه أو بين الموالاة والمعارضة، بفرض رؤيتها والمسار الذي تريده للنظام والدولة وتعزيز قبضتها على كل مفاصل السلطة والإدارة، وأنها لم تعد في حاجة أو مجبرة على التنازل أمام الشركاء المعارضين لأي طيف انتموا له، كانت تداعيات العقوبات والأزمة الاقتصادية والمعيشية والانهيار المالي، التي بدأت من جديد بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي تأخذ منحى تصاعدياً وتنذر بالوصول إلى انفجار قد يضع استقرار النظام والدولة في معرض تهديد حقيقي، وهي أزمة كان يأمل النظام أن يقدم حلولاً جذرية لها من خلال الإمساك بالملف التفاوضي والعمل على إنهاء العقوبات واستعادة الأموال المجمدة والانفتاح على المجتمع الدولي بحيث يكون قادراً على رسم صورة لهذه المنظومة بأنها الأقدر، والتي تستطيع تقديم الحلول والتوصل إلى اتفاقيات وتفاهمات وإدارة ملفات الحلول مع الخارج، وفي الداخل، في الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية ووضع إيران على طريق التنمية الحقيقية.
إلا أن التصرف الذي قامت به "شرطة الأخلاق" والذي أدى إلى مقتل الفتاة مهسا أميني كان بمثابة الضربة الموجعة والقاسية لكل طموحات المنظومة، التي أدركت أنها عاجزة عن تمرير هذه الجريمة من دون عواقب كما كانت تفعل في السابق، وأن لجان التحقيق والحديث عن محاسبة الفاعلين لم تستطع تهدئة الشارع الذي انفجر في موجة غضب واحتجاج، سريعاً ما تحولت إلى انتفاضة تداخلت فيها المطالب الداخلية المختلفة سياسياً واجتماعياً وثقافياً، مع مساعي معارضة الخارج لنقل هذه الانتفاضة إلى مستويات متقدمة، تصب في إطار هدفها الاستراتيجي بالقضاء أو الانقلاب على النظام ومنظومته الأمنية والعسكرية.
هذه الانتفاضة أعادت النظام وغرف القرار في الدولة العميقة إلى نقطة الصفر إن لم تكن البداية، وعلى رغم محاولة الإنكار وعدم الاعتراف بحصول شرخ أو انقسام حقيقي طولي داخل المجتمع الإيراني على خلفية ثقافية بين أكثرية معترضة على سياسات النظام الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الخارجية وإدارة ملفات الأزمات، وأقلية لم تعد قادرة في معظمها على السير خلف النظام من دون طرح أسئلة حقيقية حول أداء مؤسساته وتعامله مع المطالب الاجتماعية.
ولم يكن من السهل على قيادة النظام الاعتراف بوجود انقسام ثقافي عبر عنه حراك شبابي مقبول من جيل الآباء والكبار يرفض "إجبارية الحجاب" الذي يعتبر من أهم تمظهرات صورة النظام في بعده العقائدي والأيديولوجي، وتعززت أزمته عندما أدرك أنه لا يملك الآلية التي تؤهله لفتح حوار مع الجيل الجديد الذي نما خارج المحددات التي فرضها، وبعيداً من أعين الرقابة أو معرفة النظام عندما استطاع بناء عالمه الافتراضي، وقد برز ذلك من خلال اختراع لغة تواصل خاصة به استخدم فيها مفردات ومصطلحات من هذا العالم الافتراضي والألعاب الإلكترونية لتنظيم تحركاته، وهي لغة كان من الصعب فهمها على النظام الذي تعامل مع الحراك بخلفية أمنية وعسكرية وتآمرية.
وحجم التحدي الذي واجهه النظام ومنظومة السلطة من الحراك أو الانتفاضة التي اشتعلت شرارتها، في سبتمبر (أيلول) 2022، وضعه أمام واحد من خيارين، إما الاستمرار في الإنكار الذي يعني تحويل إيران إلى ساحة أمنية مفتوحة على جميع الاحتمالات، وإما الانحناء والبحث عن مخارج تسووية تسمح له بإعادة الاستقرار مقابل الإغضاء عن بعض المسائل بخاصة تلك المتعلقة بإجبارية الحجاب والعودة للحديث عن ضرورة الحوار تحت سقف الوحدة الوطنية بالمحددات التي تنسجم مع رؤيته، إضافة إلى اعتماد سياسة جدية في التعامل مع الملفات الخارجية التي تسمح له بتخفيف أزمته الاقتصادية كأحد العوامل المساعدة على تهدئة وكبح الحركات الاعتراضية والاحتجاجية.