Skip to main content

"تيرانوفا" بطلة روائية تواجه المعتدين عليها

مابويل ريفاس
AvaToday caption
على الشخصيات الواقع عليها الفعل "المأساوي" لكونه يضع حداً لشغف ثقافي عملت على إحيائه جماعة ذات مثالات فكرية وأدبية أساسها المادي الكتاب وما ينطوي عليه من قيم
posted onApril 13, 2023
nocomment

تضع الترجمة العربية لرواية "تيرانوفا، في يومها الأخير" للكاتب الإسباني مانويل ريفاس (1957)، القراء العرب في عالم رواية مكتوبة باللغة الجاليكية، وهي إحدى اللهجتين المحليتين في شمال غربي إسبانيا والبرتغال، التي غالباً ما كان الكاتب ينقلها إلى الإسبانية بنفسه.

ولكن قبل الكلام على الرواية، لا بد من كلمة موجزة على الكاتب مانويل ريفاس، إنه من أكثر الكتاب الإسبان شهرة وتداولاً في العالم، وترجمة إلى اللغات الحية فيه. ومن المعلوم أن مانويل ريفاس، من مواليد إحدى المقاطعات الجاليكية عام 1957، من عائلة فقيرة، تبيع الأم الحليب، ويعمل الأب بناء، ولا يتوانى الفتى عن إعانة والديه بالعمل في الصحافة، ويواصل تعلمه حتى ينال إجازة في الإعلام، ويصبح عضواً فاعلاً في الصحافة، وكاتباً ذا حضور دائم فيها، منذ الـ18، يحبر المقالات النقدية، مدافعاً عن اثنين، بلاده الأصلية غاليكيا، والحرية بمفهومه المتقدم، حتى لا نقول التقدمي والملتزم، ولكن غير المتزمت أو الأيديولوجي.

في ظاهر الرواية المشار إليها أعلاه، التي نقلها إلى العربية حسني مليطات، حبكة بسيطة مفادها أن ثمة مكتبة باسم "تيرا نوفا" (الأرض الجديدة)، في مدينة بالاسم نفسه، ألزم صاحباها، أمارو فونتانا وزوجته كومبا، بإخلائها إثر إخطار من المالك الوريث، الحديث النعمة لغاية تجارية، فيعرضها المستثمران للتصفية النهائية.

ولئن كان القارئ لا يرى تتمة لهذا لإخلاء المكتبة المفترض حصوله، في أحداث الرواية التي تتلاحق، فإنه يتضح له أن هذه اللحظة الدرامية التي ربما استصغر قيمتها البعض باعتبارها غير صدامية ولا تحمل في طياتها انقلاباً للمصائر بيناً، فإنه بحقيقته معادل لباب ينفتح على المكان والأزمنة السابقة على الأخطار، أي العام (2014)، وعلى الشخصيات الواقع عليها الفعل "المأساوي" لكونه يضع حداً لشغف ثقافي عملت على إحيائه جماعة ذات مثالات فكرية وأدبية أساسها المادي الكتاب وما ينطوي عليه من قيم، وما يحمله من ذكريات وصور لنضالات ومناضلين ضد سلطة فرانكو والفاشيست وأزلامهم.

وأياً يكن الأمر، فإن الفصول الـ28 التي تشكلت منها الرواية، لا تسير على خط زمني قويم أو مطرد، وإنما يعتمد الروائي فيها خطوطاً زمنية متعاكسة، من زمن الكتابة الواقعي (2014) حين أعلن أمارو فونتانا وامرأته كومبا، عزمهما على تصفية مكتبتهما، بالتزامن مع تصفية عديد من المؤسسات ذات الطابع الثقافي والحرفي، نزولاً عند إصرار المالك حديث النعمة على استعادة ملكيته بحجة "تحولها (المكتبة) إلى محمية للحيوانات وإلى مأوى للمشردين" (ص:64) وهي عبارة يكني بها عن المعارضين اليساريين، المطاردين من قبل السلطة، الذين كانوا يرتادون المكتبة وينهلون من كتبها ذات التوجه المعارض.

ومن ثم ترى الراوي يقفز إلى الوراء 39 عاماً أي إلى عام 1975، وفي مدريد، من أجل أن يسجل لحظة لقائه ببياتريس، توأم شغفه بالكتب ذات التوجه اليساري، وقد تزامن لقاؤهما مع جنازة الطاغية فرانكو، في المدينة.

ولا يزال الروائي حتى يعود القهقرى بالزمن، إلى عام 1935، ليستعيد لقاء والده أمارو فونتانا بفتاة تدعى كومبا، التي صارت امرأته، وملهمته إلى تأسيس مكتبة ذات مكانة وفاعلية في المدينة تيرانوفا. وعلى هذا النحو، جرت فصول الرواية الـ28، متأرجحة بين الزمن الماضي القديم، والأقل قدماً، وماضي السرد الواقعي، وفاقاً لمسعى الكاتب إلى تظهير أهم أركان عالمه الروائي، وعناصر رؤيته إلى الثقافة والالتزام بالحرية والانفتاح والتجدد، في مواجهة قمع الدولة الفاشية سابقاً، والسلطة المستغلة ومقاولي العقارات منعدمي القيم والمفتونين بالربح المادي من دون الحرص على الطبيعة والبشر، والحرف الصغيرة، طبعاً ومن دون إتحاف القارئ بتعريفات ذات صبغة أيديولوجية.

من حسنات هذا النوع من الروايات، ذات المنحى الموضوعاتي-ما دامت الحبكة بسيطة، على ما سبقت الإشارة اليه- أن الروائي ينصرف فيه إلى ابتكار مزيد من الشخصيات النموذجية وتحميلها قدراً من خطابه الفكري أياً يكن، ومن هذا القبيل، رسم الكاتب شخصية أمارو فونتانا، والد الراوي والشريك الفاعل في تأسيس مكتبة تيرا نوفا، نموذجاً للمثقف والأكاديمي المتنور، وأستاذ اللغة اليونانية الكلاسيكية، والمدافع النشط عن اللغة الغاليثية (أو الغاليكية) شأن الكاتب، و"متعدد الانعطافات" (أو الميول) على حد ما لقبه أحدهم. إذاً، إن لهذه الشخصية النموذجية، الموسوعية المعرفة "على طريقة الموسوعيين الطليعيين" (ص:47)، أن تحمل على منكبيها أبعاد المأساة الفكرية والقيمية الناتجة عن إنهاء مكتبته "تيرا نوفا" التي تمثل ذروة كفاحه، بالشراكة مع زوجته كومبا، في سبيل تعميم المعرفة ومقاومة الفاشية وإحقاق العدالة وغيرها من القيم التي يؤمن بها. أما خلفية أمارو الفكرية، المفترض أن تكون يسارية على ما يفهم من السياق، فإن الكاتب يطويها، ليبرز بديلاً لها تراثه الأثير ممثلاً بالإلياذة وبأبطالها القدريين أمثال أوليس وغيره.

ومثله، أو على سمته، تكون زوجته كومبا، التي يقول الراوي إنه تعرف إليها، عام 1935، فهي مثل أمارو، مثقفة وملتزمة بمبادئ إنسانية وشغوفة بالكتب وأنها "تحب أن تكون بائعة كتب" (ص:49)، إلى كونها تهوى العزف على البيانو، وتقدر الفنون عامة والرسم بصورة خاصة، حتى إنها تسنى لها حيازة لوحة لأحد الرسامين الكبار.

في المقام الثاني، يندرج اسم الراوي بيثنثو فونتانا المصاب بداء شلل الأطفال، في سنوات طفولته الأولى، ومع ذلك يفلح في متابعة أعمال والديه بالمكتبة، ويرث منهما الشغف بالكتب، والنضال ضد الفاشية، مع قدر من الشغب وتجريب المخدرات مما يتسبب بسجنه وهو لما يزل يافعاً.

أما إليسيو، وهو أخ أمارو، وعم الفتى الراوي، فهو الشاعر السوريالي بامتياز. يتابع أخبار الشعراء السورياليين، أينما كانوا، ويتخلق بأخلاقهم، ويترسم سبلهم في أوروبا وأميركا الجنوبية، ذاهلاً عما سوى ذلك.

كذلك، يمكن إدراج شخصيات من مثل غالوا المرأة المجهولة الانتماء، وإكسبكتيشن مرضعة الراوي، ووالدة صديق طفولته دومبودان، المتسائل دوماً عن هوية والده الذي يرجح أن يكون الميكانيكي على متن إحدى السفن.

وفي مقابل الشخصيات التي تمثل عالم الراوي الحميم، المتشكل من خليط المثقفين والفقراء والمهمشين من المجتمع الإسباني، على ما جهد الكاتب في إبرازه، يسلط الكاتب ضوءه بل ظلاله على شخصيات نقيضة، تمثل عالم السلطة المستبدة، من أمثال المخبر المدعي المعرفة والكتابة، والعجوز نايك الحامل إنذار المالك الأخير بلزوم إخلاء مكتبة تيرا نوفا، والأظافر الزرقاء كناية عن رجال الشرطة والاستخبارات ومجرمي التحالف الأرجنتيني ضد الشيوعية ومؤيدي الديكتاتورية والفاشية، وفرقة الموت الإرهابية. ولا غرابة في أن يرسم الكاتب مانويل ريفاس عن هؤلاء ما يوافق رؤيته الفكرية، فيخرجهم على هيئة سلبية للغاية، جديرة بالمستبدين وحكم الأقلية والمجردين من أي حس بالمسؤولية حيال الفقراء والبيئة المستلبة ثرواتها، والفكر والفن المحتقرين لصالح الاستثمار الرابح.

ولكن ثمة الكثير ما يمكن قوله حول فيض الغنائية الجريحة التي يتسنى للقارئ استخلاصها من أسلوب الكاتب الذي يكاد يواري فعل الإخبار أو الإحالة الواقعية تحت سيل من الانطباعية المشبعة بشعرية ذات مرجعية حاضرة، مستمدة من التراث الشعري الإسباني والعالمي الغني- والكاتب شاعر متمكن من حرفته- تغيب عندها، أو تكاد، خيوط الحبكة المتوقعة، أو يؤجل البت فيها إلى حين استكمال العالمين المتقابلين اللذين أشرت إليهما.

للكاتب مانويل ريفاس العشرات من الروايات والمجموعات القصصية، المترجمة إلى لغات العالم الحية، ومن أهمها: أيها الحب، ماذا تريد مني، ولغة الفراشات، وقلم النجار، واللمعان وسط الهوة، وغيرها.