بين منتصف أبريل (نيسان) الماضي، وطوال شهر مايو (أيار) المُنقضي، شنّت إسرائيل سلسلة غارات على مواقع وُجِدت فيها وحدات لـ"حرس الثورة" الإيرانية، والميليشيات التابعة لطهران من "فاطميون" و"زينبيون" و"حزب الله" في مناطق عديدة من سوريا في الجنوب ومحيط العاصمة دمشق والوسط والشمال الغربي، معظمها حصل نتيجة معلومات استخباراتية عن حلول بعض هذه الميليشيات مكان قوات روسية انسحبت من هذه المواقع وحلت مكانها قوات موالية لإيران.
حركة الانسحابات الروسية هذه تتم في شكل متواتر منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، من بعض المواقع الصغيرة التي وجدت فيها القوات الروسية، أو من مواقع ليست أساسية بالنسبة إلى الدور الروسي العسكري والسياسي في بلاد الشام، إلا أن هذه الانسحابات تحصل أيضاً من بعض المواقع التي تعود أهميتها إلى أنها تضم مخازن أسلحة كبرى للجيش السوري، كانت موسكو قد زوّدت دمشق بها، والتي كان يقتصر الوجود فيها على بضعة عناصر من الشرطة الروسية، فوجود وحدات صغيرة فيها كان بمثابة رسالة إلى قوى خارجية بأنها تحت حماية الدب الروسي، حتى لا يتم استهدافها، سواء من إسرائيل أو التمركز فيها من قبل "حرس الثورة" الإيرانية أو من القوات الأميركية الخاصة الموجودة في شمال سوريا، وأكثر الدول المعنية بالوضع في سوريا، التي ترصد هذه الانسحابات هي إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وتركيا، وإيران طبعاً، من زاوية رصد هوية القوى العسكرية التي تحل مكانها.
قبل أيام، نسبت محطة "سكاي نيوز عربية" إلى مسؤول في "البنتاغون" قوله إن "القوات الروسية تنفذ منذ أسابيع انسحاباً تدريجياً من سوريا يشمل آلافاً من وحدات المشاة وسلاحي الطيران والهندسة وبعضها من قاعدة حميميم الجوية"، وإذ أكدت مصادر متعددة هذا الخبر فإنها استبعدت حصول انسحابات من قاعدة "حميميم" الجوية.
وفي 26 مايو، رد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على هذه الأخبار بالقول لمحطة "آر تي"، "نحن هناك بناءً على طلب الرئيس الشرعي للجمهورية العربية السورية، الحكومة الشرعية لذلك البلد. ونحن هناك في حالة امتثال كامل للمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة. ونؤدي المهام التي حددها مجلس الأمن في القرار 2254. وسنلتزم بهذا الخط في المستقبل أيضاً"، لكنه رأى أنه "يتم تحديد أعدادنا (قواتنا) على الأرض من خلال المهام المحددة التي تحلها مجموعتنا هناك. والواضح أنه لم يعد هناك عملياً مهام عسكرية متبقية. لا تزال هناك مهام ضمان الاستقرار والأمن. ومن المهام العسكرية، تلك التي يحلها الجيش السوري بشكل مباشر بدعمنا. وفي إدلب، حيث لم يختفِ التهديد الإرهابي، يحاول أصدقاؤنا وجيراننا الأتراك، كما يقولون لنا، تنفيذ ما اتفق عليه الرئيسان بوتين وأردوغان قبل بضع سنوات".
أضاف لافروف، "سندعم القيادة السورية في جهودها لاستعادة وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية بشكل كامل، لأنه لا تزال هناك وحدات من القوات المسلحة للدول لم يدعها أحد. مثلاً الجيش الأميركي، الذي احتل جزءاً كبيراً من الضفة الشرقية لنهر الفرات، وينشئ بشكل علني تشكيلات شبه دولة هناك، ويشجع الانفصالية، مستخدماً لهذا الغرض مزاج جزء من السكان الأكراد في العراق".
لكن تصريح لافروف لا ينفي أن هناك انسحابات روسية تحصل، إلا أنه لم يشأ الدخول في تفاصيل تحديد العدد كما وصفه، إلا أن رصد تل أبيب هذه الانسحابات يتناول التفاصيل، التي يستند إليها الجيش الإسرائيلي لتنفيذ عملياته إذا كانت تؤدي إلى ملء إيران الفراغ.
ويعدد تقرير لمركز "ألما للأبحاث والتعليم" في إسرائيل، المصنف بأنه قريب من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في تقرير "استثنائي" نشره مطلع مايو بعنوان "الانتشار العسكري الروسي في سوريا والتحدي الإسرائيلي"، مواقع الجيش الروسي على الأراضي السورية. ويقول التقرير إن القوات الروسية تتمركز في قاعدتين مركزيتين واسعتين، في "حميميم" وطرطوس، وفي 12 قاعدة أخرى صغيرة على امتداد سوريا، إضافة إلى عدد من المواقع المنتشرة كمواقع صغيرة من ضمنها في جنوب سوريا، حيث إن هناك وجود للشرطة العسكرية الروسية التي هي حالياً قوات مشاة مقاتلة، تتولى مهام واسعة، ولا سيما حول مراكز وجود الجيش الروسي لحماية تلك المراكز والقواعد الجوية أيضاً.
وإذ يذكر التقرير عدد الطائرات القتالية واللوجيستية والمخصصة للنقل والشحن وأنواعها في قاعدة "حميميم"، والأسلحة الثقيلة في مخازن القاعدة وأعداد القوات الروسية الموجودة في حرمها، ويعدد أيضاً ما تحتويه قاعدة طرطوس البحرية، يشير إلى أنه يصعب تصور حصول انسحاب من تلك القاعدة أو غيرها في المدى المنظور.
التقرير الإسرائيلي يعتبر أن أحد التحديات التي تواجه إسرائيل "انصراف الاهتمام الروسي نحو حرب أوكرانيا، وإهمال الحلبة السورية فيأتي لمصلحة عناصر المحور الشيعي الذي تقوده إيران"، لكنه يستنتج بأنه "في كل الأحوال، فإن صرف الاهتمام هذا مؤقت، لأن روسيا لا تنوي الانسحاب من المسرح السوري، كونه حلبة استراتيجية تاريخية لها. إلا أنه مع ذلك فليس هناك فراغ في الشرق الأوسط ولو للحظة، لأن العناصر الشيعية الراديكالية بقيادة إيران تستغل على الفور انصراف الاهتمام الروسي نحو أوكرانيا، فتحاول، وتنجح، في تحقيق مكاسب في السباق على النفوذ ضد روسيا في سوريا. وهي مكاسب تكون مؤذية لمصالح إسرائيل".
ويلاحظ مركز "ألما" أن روسيا "سعت قبل حرب أوكرانيا، إلى تحقيق اندفاعة (في نفوذها) على حساب الإيرانيين في السباق معهم على النفوذ في سوريا"، ومن الأمثلة التي أوردها على ذلك أنه بعد قصف مرفأ اللاذقية في السابع والـ28 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ضد حاويات فيها أسلحة تقليدية متقدمة تم شحنها بحراً من إيران لمصلحة "حزب الله"، وحتى تاريخ حصول القصف، كان الإيرانيون يفعلون ما يشاؤون في المرفأ، لكن بعد عمليات القصف دخلت قوة روسية المرفأ وأقامت مركزاً دائماً فيه".
غير أن الجانب الإسرائيلي يركن إلى تقارير بعضها استقى معلوماته من أوكرانيا نفسها، تفيد بأن حاجة الجيش الروسي إلى جنود متمكنين تقنياً في أوكرانيا دفع موسكو إلى سحب بعض قواتها من سوريا، بما فيها من بعض المراكز تقع في مواجهة مقاتلي تنظيم "داعش"، ومن ضمنها مراكز في الصحراء شرق مدينة حمص، وفي حماه وشمال شرقي البلاد، وفي دير الزور، ومن هذه المعلومات التي تحدث عنها تقرير "ألما" الإسرائيلي الإعلان عن وفاة جنود كانوا في سوريا ونقلوا إلى أوكرانيا، حيث قضوا في القتال الدائر هناك، وأحد الأمثلة يتعلق بوفاة الضابط الروسي جورجي بترومين الذي كان ركناً أساسياً من قيادة الجهاز العسكري في قاعدة "حميميم" نفسها، حيث تولى مسؤوليات عدة كضابط عالي الرتبة في الشرطة العسكرية الروسية وأمن القوات الروسية.
وبينما كان التحدي السابق على إسرائيل في سوريا هو تجنب الصدام مع القوات الروسية، أو إصابتها، عند توجيه ضربات جوية للميليشيات الموالية لطهران، وهذا تطلب تنسيقاً عالي المستوى بين الجيشين الروسي والإسرائيلي، لأن وحدات روسية توجود على مقربة من الجيش السوري ومن الميليشيات الإيرانية، فإن التحدي الجديد يكمن في انعكاسات الخلاف بين موسكو وتل أبيب نتيجة موقف الأخيرة المتعاطف مع أوكرانيا. فإسرائيل تواجه احتمال قيام موسكو في المقابل بتمرير معلومات استخباراتية إلى سوريا والإيرانيين عن نوايا إسرائيل شن هجمات على الأراضي السورية، أو تمرير أسلحة تقليدية متقدمة إلى سوريا مثل صواريخ "أس 300"، ثم غض النظر عن انتقال هذه الأسلحة إلى المجموعات الموالية لإيران، ولا سيما "حزب الله"، كما حصل في شأن بطاريات "أس أي 17" و"أس أي 22 " و"أو أس آي" للدفاع الجوي وصواريخ "ياخونت"، مع ما يعنيه ذلك من تهديد مباشر لحركة سلاح الجو الإسرائيلي.
وفي مقابل استغلال إيران للانسحابات الروسية، ولو الجزئية، فإن موسكو تحتسب وقوف النظام السوري معها في الحرب في أوكرانيا، إلى درجة تسهيلها تجنيد مقاتلين سوريين ليقاتلوا إلى جانبها هناك، كنقطة إيجابية لدمشق في علاقتها مع الجانب الروسي في مقابل التساهل الروسي مع إسرائيل في عملياتها على المسرح السوري.
إلا أن إسرائيل ترصد أيضاً سعي طهران إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي في سوريا، فهي لا تكتفي بملء الفراغ نتيجة الانسحابات العسكرية الروسية، بل تتعداها إلى الحصول على تفعيل استثماراتها المالية والاقتصادية التي كانت قد حصلت قبل سنوات على امتيازات من الحكومة السورية في شأنها، لكن النفوذ الروسي آخر ترجمتها العملية لأسباب سياسية لأن موسكو لا ترتاح إلى اندفاعة طهران الاستثمارية والاقتصادية في بلاد الشام، ومن الأمثلة على ذلك تفعيل الإدارة الحكومية السورية مسألة التشغيل التي أعطيت رخصتها لشركة إيرانية منذ عام 2016 بالتقاسم مع جهات سورية نافذة، كما أن امتياز استخراج الفوسفات الذي أعطي جزء منه إلى موسكو، والجزء الآخر إلى إيران، جرى الاتفاق على أن تبدأ طهران بتفعيله. وتنشيط الاستثمارات الإيرانية في سوريا كانت هدفاً رئيساً للزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران، حيث قابل المرشد علي خامنئي، في الثامن من مايو.
ويفيد العارفون في هذا الصدد بأن انحراف اهتمامات موسكو نحو الحرب في أوكرانيا، والصعوبات الاقتصادية التي تواجهها كرّست سياستها السابقة على تلك الحرب بتخفيف مساعداتها الاقتصادية للنظام السوري، إذ تعاني سوريا أزمة معيشية خانقة، أفادت طهران منها من أجل تفعيل استثماراتها واعتماد الساحة السورية من أجل الالتفاف على العقوبات الأميركية ضدها هي الأخرى، كما أن طهران تخطط لتوظيف تلك الاستثمارات في تمويل الميليشيات الموالية لها في سوريا، خصوصاً بعد أن ارتفعت أصوات في البرلمان الإيراني ضد تقديم المساعدات المالية للأسد، في وقت يجوع فيه الشعب الإيراني، عقب زيارة الأسد لطهران، وهو سبب إضافي لدى إسرائيل من أجل رصد تنامي الدور الإيراني الاقتصادي الهادف إلى تمويل ميليشياتها.