علي الصراف
زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى موسكو حققت كل ما هو “ممتاز” من وجهة نظر وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان، إلا أنها في الحقيقة لم تجن إلا القليل والمؤجل والهزيل. فبينما ذهب رئيسي وهو يحمل رغبات بتوقيع اتفاقات استراتيجية تدوم 20 عاما، وتشمل التجارة والصناعة والاستثمارات والسلاح والطاقة، إلا أنه عاد من موسكو خالي الوفاض إلى حد بعيد، قياسا بما كان يتطلع إليه.
ما لم يلفت الانتباه في الزيارة، هو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اختار أكبر طاولة في الكرملين ليجلس كل منهما على طرفها البعيد.
الطاولة يبلغ طولها نحو أربعة أمتار، ليسجل بوتين واحدة من أبعد المسافات لأي محادثات قمة. ولقد كانت جلسة “التباعد الاجتماعي” المبالغ فيها هذه، مؤشرا من مؤشرات التباعد السياسي، وتعبيرا عن مشاعر الضيق بالرئيس الزائر، بدلا من مشاعر الترحيب.
ولو أن رئيسي تمدد على تلك الطاولة، ومد يديه بطولهما، لما وصل إلى مكان جلوس بوتين. لأنه سيكون بحاجة إلى متر ونصف إضافي.
بوتين يعرف ماذا يفعل عندما أظهر اللقاء الرسمي على قنوات التلفزيون وهما على تلك المسافة، ليقول ما لا حاجة إلى قوله في انطباعاته عن ضيفه الثقيل وعن علاقات بلاده المثيرة للاكتئاب بإيران.
رئيسي قال إن اجتماعاته في موسكو كانت مليئة بالابتسامات وإن نتائج المحادثات سوف تظهر تدريجيا. وهو ما يعني أن “مسودة مشروع التحالف الاستراتيجي” التي حملها إلى نظيره الروسي لم تلق الكثير من القبول.
وعدا التمديد التلقائي لاتفاق الثاني عشر من مارس 2001 الذي وقعه بوتين مع الرئيس السابق محمد خاتمي، فإن طهران لا يتوفر لها من الموارد ما يمكنها أن توقع به اتفاقا جديدا.
ذهب رئيسي ليطلب غواصات من فئة “كيلو” ودبابات تي – 72 ومدرعات للمشاة ومروحيات وأنظمة مختلفة مضادة للدبابات، وبطاريات دفاع جوي من طراز أس 400، وطائرات سوخوي 35 وكان يأمل أن يعود من زيارته وهو على متن واحدة من تلك الطائرات. إلا أنه لم يحصل حتى على وعد بشأنها.
والسبب هو أن إيران لا تملك ما يغطي قيمة صفقة تتجاوز 10 مليارات دولار. كما أن وجود طائرات وبطاريات دفاع حديثة إنما يضع روسيا في مواجهة مباشرة مع حلفاء وأصدقاء آخرين أكثر جدارة بالثقة من إيران.
وما تزال موسكو تطالب إيران بتسديد عدة مليارات من الدولارات عن بناء محطة بوشهر للطاقة النووية التي تم افتتاحها عام 2010، وغيرها من المشاريع التي تم وقف بعضها، ومع ذلك فقد ذهب رئيسي ليقترح بناء محطة طاقة نووية جديدة. وكان الجواب الأرجح هو “سددوا ديونكم عن الأولى، لكي نبني لكم الثانية”.
ذهب رئيسي إلى موسكو بإغراء التطلع إلى أنه ربما كان بوسع إيران أن توقع اتفاقا على غرار اتفاق التعاون الاستراتيجي مع الصين الذي يمتد إلى 25 عاما، وتبلغ قيمته نحو 420 مليار دولار.
لم يلاحظ رئيسي، ولا فريق المتفائلين الذي حمله معه، أن روسيا لا تستثمر كما تستثمر الصين، وليست لديها “مبادرة حزام وطريق” كالمبادرة الصينية. وأنها تبيع تكنولوجيا وخبرات وأسلحة، مما يقتضي تسديد قيمتها، وليس انتظار عائداتها، أو استقطاع قيمة الاستثمارات من تلك العائدات.
ولقد غلب الظن على طهران أنها يمكن أن توقع عقودا ومشتريات، على أساس أن “التحالف الاستراتيجي” الذي اقترحته على موسكو، يعني أن تتحمل روسيا الجانب الأهم من التكاليف. وهو ما لا يستقيم مع تقييم موسكو لطبيعة علاقاتها مع طهران.
الاعتقاد المبالغ فيه من جانب طهران لنفسها دفعها أيضا إلى بحث قضايا تشمل إعادة الإعمار في سوريا، والعلاقات مع أفغانستان، والنظام الأمني في جنوب القوقاز، وسط إشارات بأن إيران تريد أن تعرض على موسكو سبيلا لكبح النفوذ التركي المتزايد في أذربيجان وتركمانستان، ولتظهر كشريك في سياسات الردع في هذه المنطقة. وهي قضايا كان مجرد طرحها يثير الاستخفاف في موسكو، إلى درجة أنه لو كانت هناك طاولة أكبر من تلك الطاولة في الكرملين، لما تردد الرئيس بوتين في أن يُجالس ضيفه حولها.
روسيا ترى أيضا أن إيران أقرب إلى شوكة في القدم، منها إلى حليف أو حتى صديق.
الدور الإيراني في سوريا، على سبيل المثال، هو بكل المعاني سبب لبقاء هذا البلد يعاني الأمرّين من جراء العقوبات الأميركية. وبينما لا تملك إيران ما تقدمه لإعادة إعماره التي تتكلف نحو 450 مليار دولار، فإن بقاء قواتها وميليشياتها هناك يمنع الآخرين من توفير الأموال أيضا.
بعبارة أخرى “لا أعينك، ولا أدع أحدا يعينك أيضا”.
واضح تماما أن الأعمال التخريبية التي تقودها إيران في العراق ولبنان واليمن عن طريق ميليشيات تابعة للحرس الثوري، لا توفر لروسيا أساسا لكي تلعب دورا أمنيا أو سياسيا معقولا، أو حتى لبناء علاقات تجارية تناظر مكانة دول المنطقة الاقتصادية. والسبب في ذلك هو تلك الشوكة في القدم.
إيران كدولة مشاغبات وقلاقل ونزاعات إنما ظلت تنزع الثقة عن “المبادرة الروسية لضمان الأمن المشترك في منطقة الخليج” التي ظل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يسعى لتسويقها في المنطقة.
بوتين يعرف أن إيران الميليشياوية لا تتصرف كدولة. وبالتالي لا يمكن الثقة بأنها ستفعل ما تقول، أو تحترم ما توقع عليه. ولو أنه تم بناء تلك المبادرة بالفعل، فإن ميليشيات إيران وحرسها الثوري سوف ينسفان كل ما لها من قيمة في أي وقت. وبدلا من أن تكون مبادرة “أمن مشترك” فإنها ستكون مبادرة متاعب مشتركة لا تستحق قيمة الورق الذي كتبت عليه.
بوتين يعرف أيضا كيف يرسل الإشارات. ففي خضم زيارة رئيسي أوفد إلى الرياض مبعوثه الشخصي للشؤون السورية ألكسندر لافرنتييف للاجتماع بكبار المسؤولين السعوديين.
وكأنه أراد أن يقول لضيفه الثقيل “الأصدقاء الذين يمكن الثقة بهم، ليسوا كمثل الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون”.
وبينما تنتظر إيران رفع العقوبات عنها فور العودة، بحسب محادثات فيينا، إلى الاتفاق النووي وإطلاق سراح أموالها المجمدة فإن التوقعات الإيرانية، من هذا الجانب، تبدو مثيرة للاستخفاف أيضا.
ذهب رئيسي إلى موسكو لكي يستعرض أحلاما ورغبات، إلا أنها ظلت في عين موسكو مجرد أوهام ومبالغات. الطاولة، قالت كل شيء.