يعد إيان ماك إيوان واحداً من أبرز الروائيين البريطانيين في الوقت الحالي، وأغزرهم إنتاجاً، وربما شهرة، لكون عدد من رواياته قد جرى اقتباسها سينمائياً، وفازت الأفلام المأخوذة عنها بجوائز كبيرة، وعلى رأسها جائزة الأوسكار التي فاز بها فيلم "الكفارة"، المأخوذ عن رواية له بالعنوان نفسه، ومن تمثيل كيرا نايتلي وجيمس ماكافوي. وقد فازت روايته "أمستردام" بجائزة البوكر البريطانية عام 1998، ووصلت رواياته "راحة الغرباء" (1981)، و"كلاب سوداء" (1992)، و"الكفارة" (2001)، و"على شاطئ تشيسيل" (2007)، إلى القائمة القصيرة للجائزة، كما وصلت روايات أخرى له إلى القائمة الطويلة. وهذا النجاح، على صعيد تحول عدد من رواياته إلى أفلام سينمائية، أو تمثيليات ومسلسلات تلفزيونية، كتب ماك إيوان لبعضها السيناريوهات بنفسه، وكذلك حصول عدد كبير من رواياته على جوائز مهمة، شيء لا يشاطره فيه إلا قلة مختارة من كتاب بريطانيا الكبار.
بدأ إيان ماك إيوان (المولود عام 1948) بكتابة القصة القصيرة، وعدد من الروايات القصيرة ذات الحبكة القوطية، السوداوية، البوليسية، أو التاريخية، التي جعلت الوسط الأدبي البريطاني يطلق عليه في وقت من الأوقات لقب "إيان الرهيب"، وذلك قبل أن يتحول إلى كتابة رواية تتخذ من الأحداث والقضايا الراهنة مادتها السردية، مهتماً بصورة متزايدة بتحولات السياسة البريطانية، وسيطرة اليمين المحافظ، وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وقضايا البيئة، والتطورات التكنولوجية المتسارعة، والذكاء الاصطناعي وتأثيره على المستقبل.
صدرت أخيراً، روايتان مترجمتان لإيوان إلى العربية عن الدار الأهلية للنشر في عمان (2021)، وهما آخر ما كتبه ماك إيوان ونشره عام 2019. الرواية الأولى "الصرصار" The Cockroach (ترجمة الشاعر والمترجم المصري أحمد شافعي)، والثانية "آلات تشبهني" Machines Like Me (ترجمة الشاعر والمترجم المصري عبد المقصود عبد الكريم). وقد قمت بمراجعة الترجمتين وتدقيقهما على الأصل. وتمثل هاتان الروايتان انشغالات الكاتب الراهنة، وسعيه إلى التعرف على ما سيؤول إليه حال بريطانيا، والعالم عامة، في المستقبل القريب، في ضوء تزايد نزعات الانفصال، وصعود ظاهرة القوميات، اليمينية المتطرفة، وتصاعد نزعات كراهية الآخر، في الغرب، كما في باقي أنحاء العالم.
"الصرصار"، وهي رواية قصيرة (نوفيللا)، تتسم بسرد سريع لاهث، وكثير من الفطنة، والسخرية المبطنة من وضع بريطانيا الراهن، في ضوء الـ"بريكست"، وتباعدها عن القارة الأوروبية العجوز، ورغبتها في استعادة مجد الإمبراطورية الغابر، وتصاعد قوة اليمين غير العقلاني الذي تتسم ردود أفعاله السياسية بالنزوع إلى الحدس والغريزة والانفعالات ذات الطابع الأقرب إلى تصرفات الكائنات الأدنى في المملكة الحيوانية. ويستخدم ماك إيوان، لتصوير هذه الأوضاع، قبل الـ"بريكست" وبعده، نوعاً من الحدث الكافكاوي المعكوس، مستلهماً في ذلك رواية "المسخ"، أو "التحول" The Metamorphosis، للكاتب التشيكي فرانز كافكا (1883- 1924)، حيث يستيقظ غريغور سامسا ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة. أما في رواية ماك إيوان، فإن الحشرة الصغيرة (الصرصار) تستيقظ لتجد نفسها وقد تحولت إلى إنسان ضخم، تتمدد أطرافه بعيداً عن جسمه، ويستلقي لسانه الكبير في فمه فيحار كيف يحركه.
في هذه الرواية، التي تنتمي في تاريخ الأشكال الشعرية والسردية إلى الهجائية الساخرة Satire، المحتشدة بالإلماعات allusions، والمحاكاة الساخرة Parodia، والحكاية المجازية ذات الطابع الأليجوري، يسعى الروائي إلى كتابة تعليق موارب، ساخر، مرح، ذي طابع هجائي، على ما يحدث في أروقة السياسة البريطانية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فالصرصار، الذي ينطلق لاهثاً، من الزوايا الرطبة لقصر وستمنستر، عابراً الشوارع، مرتعباً من أن تدوسه الأقدام الآدمية المسرعة، يجد نفسه نائماً في سرير رئيس الوزراء جيمس سامس (الملقب بجيم). وإذ ينظر إلى نفسه في المرآة يكتشف أنه تحول إلى هيئة رئيس الوزراء بالفعل، ويكتشف فيما بعد أن باقي أعضاء مجلس الوزراء هم إخوته وأخواته في النوع والغريزة، الذين قاموا بالرحلة نفسها، من تلك الزوايا الرطبة باتجاه وزاراتهم، عدا واحد يتخلص منه جيم بالحيلة والتزييف والكذب وتشويه السمعة. لقد انطلقت تلك الحشرات الصغيرة للقيام بمهمتها العظيمة في التحول إلى بشر يتسلمون مقادير الدولة ويعملون على تغيير قواعد اللعبة السياسية، استناداً إلى الطبيعة الغريزية التي تتسم بها تلك الحيوانات الدنيا، عاكسة ردود فعلها على السياسة المحلية والدولية.
لكن اللافت في هذه الرواية القصيرة لا يتصل بهذه الحبكة الكافكاوية المعكوسة، في الأساس، بل بعملية التحويل الجنوني لمسار المعاملات الاقتصادية، والتدفق المادي، أو ما يسميه الراوي "الانعكاسية"، حيث يكون على العامل أو الموظف أن ينفق ما يتلقاه من أجر، ولا يبقي معه مالاً، وإلا تعرض للمحاكمة والحبس، كما أن الشركات عندما تقوم بتصدير سلعها عليها أن ترفق صادراتها مع ثمن هذه الصادرات. وهكذا يتعين على كل شخص أن يشتري سلعاً بكل ما يملك، في حالة محمومة من جنون الاستهلاك. وتستقطب هذه الحركة الانعكاسية للاقتصاد اهتمام المحافظين، واليمين السياسي في أوروبا وأميركا، لكنها تعمل في الوقت نفسه على إحداث فوضى سياسية واقتصادية عارمة، وبلبلة، تقلب العالم رأساً على عقب.
وفي هذا الوقت، تعود الصراصير إلى أجسامها الحقيقية، تاركة البشر في فوضى وبؤس تامين. وكما يقول جيم في خطبته التي يوجهها إلى زملائه الوزراء السابقين، العائدين إلى أجسامهم الصرصورية: "في هذه اللحظات الختامية من مهمتنا، لم يبق لنا من واجب إلا واجبنا تجاه الحق. وثمة حق لم نخفه قط عن مواطنينا الأفذاذ. من أجل أن تنعكس محركاتنا الجليلة التي تدير الصناعة والتمويل والتجارة، عليها أولاً أن تتباطأ ثم تتوقف. سوف تواجهنا مشقة. وقد تبلغ من الآلام أقصاها. ولا يخالجني شك في أن احتمالها سوف يشد من عضد هذا البلد العظيم. ولكن هذا لم يعد يعنينا" (ص: 135).
الرواية الثانية "آلات تشبهني" تتأمل واقع المملكة المتحدة، وكذلك التحولات السياسية والتكنولوجية في العالم المعاصر، من خلال استعادة لحظة سابقة من تاريخ بريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي، وهزيمتها في حرب جزر الفوكلاند مع الأرجنتين (1982)، وعبر رصد التطورات التكنولوجية المتسارعة، بدءاً من الخمسينيات، والأبحاث الجارية، على قدم وساق، في تطوير عمليات الذكاء الاصطناعي AI. وعلى الرغم من أن خلفية الأحداث الروائية تدور حول تلك الهزيمة، والحدث الجارح للكبرياء الوطني (الإمبراطوري) وللذات القومية البريطانية، الذي أدى، بعد فترة قصيرة، إلى استقالة رئيسة الوزراء المحافظة مارغريت ثاتشر، وعودة حزب العمال إلى الحكم، فإن حبكة العمل تتمحور حول الإنسان الآلي آدم الذي اشتراه الراوي لشغفه بالتطورات التكنولوجية، ولكونه ألف في صغره كتاباً حول الذكاء الاصطناعي. ولتعزيز هذا الخط في تطور حبكة الرواية يستعيد ماك إيوان سيرة عالم الرياضيات البريطاني ألان توريتغ (1912- 1954)، الذي قام بتطوير جهاز الحاسوب خلال الحرب العالمية الثانية، ويجعله يعيش حقبة السبعينيات والثمانينيات، ساعياً إلى تطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي، وصناعة كائنات أكثر ذكاء من الإنسان، كما أنها تتمتع بقيم أخلاقية أعلى من صانعيها.
في هذا السياق من استعادة بعض مادة التاريخ وأحداثه المأساوية، بما تنطوي عليه من السعي إلى التمسك بماض كولونيالي، استعماري، غابر، وسرد بعض تطورات العلم، والمعرفة، والتكنولوجيا المتسارعة، وحلم الإنسان بيوتوبيا العلم، التي قد تتحول إلى ديستوبيا، عبر الاستخدام الإنساني الشرير لها، يتأمل ماك إيوان سلوك البشر وعلاقاتهم، والسياسات المدمرة التي يتبناها رجال السياسة ونساؤها، والدوافع الأخلاقية المنحازة التي تحكم تصرفات البشر، في مقابل المحلوم به يوتوبياً في سلوك الإنسان الآلي الفائق الذكاء والمحكوم بمعايير أخلاقية تغلب القانون والخير على التحيزات والفروقات البشرية.
وتتجلى هذه الفروقات الحادة في سلوك شخصية كل من تشارلي وميراندا، وهما شابان متحابان يسكنان في البناية نفسها، وما يفعله الإنسان الآلي آدم، الذي يقع في غرام الفتاة، لكنه لا يتورع عن تبليغ الشرطة عنها لكونها خرقت القانون وضللت العدالة عندما ادعت أن شخصاً يدعى غورينج اغتصبها. فمن وجهة نظر آدم، فإن دافعها الذي تمثل في الانتقام لصديقتها الحميمة (الفتاة المسلمة الباكستانية الأصل)، التي انتحرت لأن غورينج اغتصبها، لا يبرر لميراندا تضليل العدالة، والكذب عليها. فالعدالة ينبغي أن تسري على ما قام به غورينج، من اغتصاب، وما قامت به هي من تضليل وادعاء كاذب. وهو ما يدفع تشارلي إلى تحطيم رأس آدم، ثم يحمله بعد فترة إلى ألان تورينغ، ليستفيد منه الأخير في أبحاثه على الذكاء الاصطناعي، بناء على رغبة آدم الأخيرة وهو يحتضر.
ويمكن أن نقع على خلاصة تفكر إيان ماك إيوان في المستقبل اليوتوبي الذي يحلم به ألان تورينغ، في قول الأخير لتشارلي في نهاية الرواية: "لا يشبه ذلك تحطيم لعبتك، كطفل مدلل. فأنت لم تنف حجة مهمة بخصوص سيادة القانون. لقد حاولت تدمير حياة. كان واعياً. لديه نفس. أما كيف يتم إنتاجها، الخلايا العصبية الرطبة، والمعالجات الدقيقة، وشبكات الحمض النووي، لا يهم. هل تعتقد أننا الوحيدون الذين نتمتع بهبتنا الخاصة؟ اسأل أي صاحب كلب. كان هذا عقلاً جيداً، يا مستر فريند، أفضل من عقلك أو عقلي، كما أظن. إنه وجود واع، وقد بذلت قصارى جهدك للقضاء عليه. أنا أحتقرك. لو أن الأمر بيدي–" (ص: 377)
لكن إذا كانت رواية "الصرصار"، التي تزامن نشرها مع "آلات تشبهني"، (وربما تكون قد كتبت على عجلة من وحي الفوضى والبلبلة التي أثارها انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، مشغولة باللحظة البريطانية الراهنة، ومصير المملكة المتحدة بعد هذه المقامرة السياسية، والاقتصادية، والجيو استراتيجية، التي أقدم عليها المحافظون في بريطانيا، فإن "آلات تشبهني" معنية بالبحث عن مصير البشرية، وطبيعة الحياة، في ضوء التطور الهائل المتسارع للتكنولوجيا، وما حققته أبحاث الذكاء الاصطناعي من تقدم خلال العقود القليلة الماضية. ويمكن القول، في هذا السياق، إن "الصرصار" تتأمل واقع التقهقر والتراجع، والعودة إلى أوهام الماضي، إلى أوهام الإمبراطورية، والأعلوية الغربية (بريطانيا العظمى Great Britain في هذه الحالة)، فيما تحاول "آلات تشبهني" قراءة ما يحمله المستقبل، وتقدم البحث في الذكاء الاصطناعي، وصناعة الروبوتات. لا يعني هذا أن الرواية الأخيرة تكتب يوتوبيا المستقبل، والتقدم التكنولوجي، وقدرة الإنسان على صناعة كائن يتفوق عليه، في الأداء والقدرة والأخلاق، بل يعني أن ماك إيوان يقدم رؤيتين متعاكستين للتاريخ الراهن؛ رؤية تتعالى فيها أصوات القطيعة وكراهية الآخر، ونزعات الانفصال، وسياسات الهوية، المتصلبة، المتقوقعة حول ذاتها، ورؤية يسودها التسامح والحب والمعايير الأخلاقية التي لا تشوبها المصالح والانحيازات والتمييز. ويمكن لنا هنا أن نرى العملين وهما يتشابكان، بل وربما يتكاملان، في تقديم وجهين من وجوه اندفاعة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.