يجمع المراقبون اليوم على وصف جائحة فايروس كورونا التي تجتاح الكوكب بـ"الصدمة" أو "الصدمة الكبرى"، المؤلمة بالتأكيد، ولكنهم اعتبروا في نفس الوقت أنها تكاد أن تكون ضرورية، بطريقة أو بأخرى، للتأكيد على أهمية القيام بإصلاحات جوهرية في خضم الأزمات والحروب التي تشهدها المجتمعات البشرية.
وقد اهتم الفلاسفة والكتاب والمفكرون بشكل عام، عبر التاريخ، بجوهر الإنسان، متسائلين عن قدرته على التطور والتحسن، أو على العكس من ذلك، التقهقر أمام اختبار الأزمات والحروب.
فهل قرع (كوفيد- 19) جرس زوال نموذج سياسي واقتصادي ومجتمعي وثقافي بلغ مداه، وحان الوقت لإعادة النظر فيه. وهل تقف البشرية على أبواب حقبة جديدة "ما بعد فايروس كورونا"؟
ويؤكد الأستاذ الجامعي ادريس خروز، أن "(كوفيد-19) يجسد بحق مفهوم العولمة. فهو يؤثر على الجميع، ولا يميز بين البلدان المتقدمة والنامية، أو بين الأغنياء والفقراء".
واعتبر خروز أن "الصدمة التي سببتها هذه الجائحة نابعة من التأثير المفاجئ، واتساع نطاقها وعمليات إعادة النظر في العديد من اليقينيات وأنماط الحياة التي كانت تعتبر في حكم المكتسبات بفضل الطفرات المالية والعلمية والتكنولوجية والرقمية والطبية والتنظيمية التي تشكل ما يسمى بالمنظومات وسلاسل قيمة العولمة".
ولا يؤمن خروز كثيرا بـ"نشوء نظام عالمي جديد" بعد (كوفيد- 19)، واعتبر أن الجائحة الحالية ستدفع، على الأقل، إلى التشكيك في النظام العالمي والرأسمالية "الجامحة".
من جهته يرى الباحث الجامعي رشيد عشاشي، أن العلامات المنذرة ببزوع عالم جديد كانت موجودة قبل فترة طويلة من ظهور أزمة كورونا. و(كوفيد- 19) لا يعدو أن يكون تتويجا لجملة من الوقائع والأحداث التي كشفت عن "اختلال" العالم المعاصر.
وأضاف المحلل لدى إذاعة "لوكس راديو" ، "لنتذكر مختلف حركات التمرد في العام الماضي، لا سيما حركة السترات الصفراء، والمظاهرات في كل من الجزائر والعراق والشيلي، وكذلك الاضطرابات الجيوسياسية التي حدثت في السنوات الأخيرة على غرار انتخاب ترامب و"بريكسيت"، وصعود الحركات الشعبوية في أوروبا".
وأوضح أن "كل هذه الأحداث تعكس تغييرا عميقا في موازين القوى، لاسيما إعادة النظر في نموذج يمر بأزمة، وهو نموذج عولمة السوق والليبرالية الجديدة وهيمنة التمويل الطفيلي المعولم، أو بعبارة أخرى؛ الرأسمالية البدوية".
ولكن هل سيتمكن الإنسان من اغتنام "فرصة" جائحة كورونا لتغيير رأيه واستخلاص الدروس من هذه الأزمة أم سيبقى تائها إلى الأبد؟
تشير الأخصائية في علم النفس والأنثروبولوجيا، غيثة الخياط إلى أنه، دائما بعد كل وباء أو جائحة، تخالج "الناجين" رغبة شديدة في الترويح عن النفس والاستمتاع بالحياة على أكمل وجه، أكثر من الرغبة في التفكير بشأن الكارثة المنصرمة.
واعتبرت أن ذلك "يعكس، بطريقة ما، غريزة الحياة البدائية والمقدسة والقوية التي تنتصر على الجوانب المظلمة والسقيمة لهذه التجربة الاستثنائية". وهو نفس ما ذهب إليه الأستاذ الجامعي خروز، الذي أشار، إلى "العودة السريعة والتلقائية للصين، حتى قبل انقضاء الجائحة، إلى ضوابط وسلوكيات ما قبل سبتمبر 2019".
وأضاف "وذلك علما أن هذا البلد نفسه كان بؤرة الجائحة الأولى التي تسببت في خسائر بشرية فادحة وأضرار اجتماعية واقتصادية لم يتم حتى الإعلان عنها بأمانة، وتم التلاعب بها على نطاق واسع. وبناء على ذلك، أعتقد أن بروز عالم جديد لا يدخل ضمن جدول أعمال القوى العظمى".
من جهته، قال الفيلسوف والكاتب مليم العروسي "إذا كان لدى بعض السياسيين ذاكرة قصيرة، فإن الإنسان، كجنس، سيتذكر لفترة طويلة هذه الحلقة الفريدة من نوعها"، مضيفا أنه "لا شيء يُنسى. يتم تخزين كل شيء في اللاوعي، الفردي والجماعي على حد سواء. وينتقل من جيل إلى آخر عبر اللغة والأساطير والفكاهة والأدب والموسيقى... كل وسائط الذاكرة هذه تتكلف بنقل إرثنا إلينا في شكل أفراح وأتراح".
هذا يحدث في اللاوعي، ولكن على مستوى "الوعي"، الأكثر وضوحا وآنية، لم يميل الإنسان بسرعة إلى "طي الصفحة" و"إدارة الظهر" للماضي لاستئناف حياته الطبيعية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالكوارث والأحداث المؤلمة الأخرى؟
ويعزو العروسي ذلك إلى حاجة الإنسان الفطرية إلى "الاستحواذ" و"الهيمنة" و"السيطرة"، مضيفا أن "هذه النزعة إلى الهيمنة تفضي إلى الرغبة في الاستحواذ. إذ يسعى الإنسان، بالفطرة، إلى امتلاك كل شيء، بما في ذلك ما لا يحق له".
وفي سياق مجاراة المنطق، يؤكد الباحث الجامعي عشاشي أن "التاريخ ليس من صنع الرجال، بل من صنع الأقليات النشطة والطبقات المهيمنة"، مضيفا أنه "بما أن أزمات الرأسمالية متواترة بلا رجعة، فإن إبداع الطبقات المهيمنة غالبا ما يقتصر على التفكير في طرق مبتكرة لتجاوزها بغية الحد من تشبع الأسواق، وبالتالي الرفع من معدلات الأرباح".
وبخصوص "الأزمة البيئية"، لا يعتقد الباحث أنها ستشهد انفراجا بفعل فايروس كورونا، كما يستشف من بعض الخطابات الطوباوية، مضيفا "أما بالنسبة للخطاب الإيكولوجي الزائف الذي يركب هذه الأزمة، فيبدو لي أنه من المفيد التذكير بأنه إذا بدت عودة الأسماك إلى مياه البندقية أمرا لطيفا، فإن عودة العمال إلى مراكزهم أو معاملهم بعد الأزمة أمر لا يبدو بتلك اللطافة".