قدم تطوران جديدان، مؤشرا قويا على التصدع الكبير في علاقة الولايات المتحدة والعراق، بسبب عجز بغداد عن احتواء النفوذ الإيراني المتجذر في البلاد.
وتزامن التطوران، بشكل لافت، إذ أجلت واشنطن موعد استقبال رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، الذي كان مقررا هذا الشهر، إلى إشعار غير محدد، فيما بدأت السفارة الأميركية ببغداد تنفيذ خطة لتقليص عدد موظفيها بشكل كبير.
وضغطت الولايات المتحدة على العراق بشدة، لتعديل سياسة الانفتاح اللامحدود على إيران، إلى درجة إرسال وزير خارجيتها إلى بغداد، لنقل هذه الرغبة إلى المسؤولين العراقيين.
وبالرغم من أن المسؤولين العراقيين وعدوا الولايات المتحدة بفعل كل ما من شأنه تهدئة مخاوفها من النفوذ الإيراني، إلا أن الوقائع على الأرض لا تشير إلى وجود أي تحول استراتيجي.
وللمرة الثانية، يؤجل موعد زيارة عبدالمهدي إلى واشنطن من طرف الولايات المتحدة دون إبداء الأسباب، ما ترك علامات استفهام كبيرة حول التقييم الذي يضعه المسؤولون الأميركيون لرئيس الوزراء العراقي.
ومع أن موعد هذه الزيارة لم يكن معلنا، إلا أن إشارات متعددة صدرت من بغداد خلال الأسابيع الماضية، تشير إلى أنه “قريب”.
وحاول رئيس الوزراء العراقي تلبية رغبات الولايات المتحدة بشأن تنظيم عمل قوات الحشد الشعبي، بما يضمن خروجها من تحت تأثير العباءة الإيرانية.
وأصدر عبدالمهدي أمرا خاصا في هذا الإطار، لكنه لم يتضمن جديدا، فضلا عن المصاعب التي تمنع تطبيق بنوده، التي ينحدر معظمها من القانون الذي شرع خلال ولاية رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي.
وفشل عبدالمهدي في محاسبة المتورطين في هجمات طالت مبنى السفارة الأميركية في بغداد وعددا من المعسكرات العراقية التي ينتشر فيها جنود أميركيون، خلال مايو الماضي.
ويواجه عبدالمهدي مشكلة مركبة في هذا الملف، إذ أن “تحالف الفتح” برئاسة هادي العامري المدعوم من إيران الذي يوفر جزءا مهما من الغطاء السياسي للحكومة العراقية، متهم بأنه على صلة بأجنحة عسكرية تنفذ أوامر إيرانية، وربما تورطت في هجمات مايو.
ويقول مراقبون إن ثمن المواجهة بين الحكومة والحشد الشعبي، في حال اندلعت، ربما يكون رأس عبدالمهدي نفسه، ما يلقي الكرة في ساحة رئيس الوزراء العراقي، المتهم بانتهاج سياسة استرضاء لطهران، على حساب العلاقة مع واشنطن.
وفي سياق الانحدار في العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق، تمضي السفارة الأميركية في بغداد إلى تقليص كوادرها الدبلوماسية، لتتحول من إحدى أكبر بعثات واشنطن في العالم، إلى أقلها عددا على مستوى الأفراد.
وباشرت الولايات المتحدة في نقل الجزء الأكبر من موظفيها المدنيين في السفارة الأميركية ببغداد، في إطار ما كان يعتقد أنه خطة مؤقتة لحمايتهم، بعد التهديدات الإيرانية المتزايدة لسلامتهم، لاسيما بعد هجمات مايو.
لكن مصادر في سفارة الولايات المتحدة تؤكد أن خطة التقليص ربما لن تكون مؤقتة، في ظل ضعف الاستجابة العراقية للمخاوف الأميركية.
ووفقا لتقارير غربية، فإن عدد العناصر الأميركيين الذين سيتركون في سفارة واشنطن ببغداد، لن يتجاوز المئة، بعدما كان عددهم بالآلاف. لكن سياسيا عراقيا على صلة بمكتب رئيس الوزراء، قلل من قيمة هذه التطورات.
وقال السياسي العراقي في تصريحات صحافية، إن “تأجيل زيارة عبدالمهدي إلى واشنطن، يرتبط بالتزامات طارئة في البيت الأبيض”.
مؤكدا أن “التواصل مستمر مع المسؤولين الأميركيين لتحديد موعد الزيارة”.
وأضاف أن “العراق لا يستطيع أن يعلق على ترتيبات الدول بشأن أمن سفاراتها وعدد موظفيها”، نافيا أن يكون مكتب عبدالمهدي تلقى أي إشارات أميركية في هذا الصدد.
وأكد أن “العلاقة بين بغداد وواشنطن في أفضل صورها، حاليا”.
ويقول معلقون عراقيون إن الولايات المتحدة تمضي في ضغوطها على العراق، لتصحيح مسار علاقته بإيران، فيما يحذر مراقبون من أن واشنطن قد تتخلى عن بغداد، إذا ما أصرت على استمرارها في الخضوع للنفوذ الإيراني.
ومع أن هناك من يستبعد توجه الولايات المتحدة نحو ترك العراق لقمة سائغة للنفوذ الإيراني، إلا أن التحذيرات تتزايد من أن سياسات الرئيس دونالد ترامب، الخارجة عن المألوف، قد تجنح نحو مثل هذا الخيار، في حال اليأس من إصلاح الوضع العراقي، ما يعني وضع بغداد وطهران في سلة واحدة، في مواجهة عقوبات اقتصادية مزدوجة.
وكانت صحيفة “العرب” كشفت في عدد سابق أن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قدم لكل من رئيس الجمهورية برهم صالح وعادل عبدالمهدي، خلال زيارة سرية قام بها للعراق في الأسبوع الأول من مايو الماضي، أدلة استخبارية تشير إلى تخطيط مجموعة عراقية على صلة بإيران لتنفيذ عملية عسكرية ضد مجمع يضم قوات أميركية شمال بغداد، وآخر غربها.
وشملت المعلومات الاستخبارية أيضا “خططا تتعلق بمهاجمة مبنى السفارة الأميركية في بغداد عبر صواريخ قصيرة المدى”، فضلا عن “خطط إيرانية جدية لإغلاق مضيق هرمز”.
وعقب انتهاء مباحثاته مع صالح وعبدالمهدي، أبلغ بومبيو الصحافيين الذين يرافقونه في طائرته، بأنه بحث مع المسؤولين العراقيين “أهميّة أن يضمن العراق قدرته على توفير الحماية المناسبة للأميركيين في بلدهم”، مشيرا إلى أنّ المسؤولين العراقيين “أظهروا أنّهم يدركون أن هذه مسؤوليتهم”.
وأقر بأنه أطلع المسؤولين العراقيين “على سيل التهديدات المتزايد الذي رأيناه من إيران”، فضلا عن إعطائهم “خلفية أكثر قليلا حول ذلك حتى يقوموا بكل ما بوسعهم لتأمين الحماية لفريقنا”.
وقال مراقب سياسي عراقي إن الإدارة الأميركية لا تثق بالحكومة العراقية لا بسبب شكها بولاء تلك الحكومة لإيران بل لأنها تعتبرها حكومة ضعيفة لا تقوى على اتخاذ قرار مستقل، يجعلها في مواجهة القوى المهينة على الشارع العراقي، وهي قوى موالية لإيران.
وأضاف المراقب في تصريح لـ”العرب” تفضل الولايات المتحدة أن لا تحرج “أصدقائها” في العراق في هذا الوقت العصيب. غير أنها في ذات الوقت لا تظهر تساهلها مع أية محاولة لفك ارتباط العراق نهائيا بالولايات المتحدة. فمثلما تعتقد إيران أن العراق هو حديقتها الخلفية في أية مواجهة محتملة فإن الولايات المتحدة تعول على وجودها العسكري في العراق في تلك المواجهة.
وليس ضروريا بالنسبة للولايات المتحدة نوع الموقف الذي تتخذه الحكومة العراقية فهي لا ترى في ذلك الموقف مؤشرا على تغيير ميزان القوى. ذلك لأن الحكومة العراقية لا تملك القدرة على منع القوات الأميركية من التحرك بحرية على الأراضي العراقية. غير أن كل الإجراءات الاحترازية انما تتخذ من أجل سلامة الموظفين المدنيين الذين تعجز الحكومة العراقية عن حكايتهم.
وأكد المراقب أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتخلى عن العراق لا من أجل حمايته بل لأنها تعتبره رأس الحربة في مشروعها في الشرق الأوسط.