عبد العزيز الخميس
تصريحات وزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي، الأخيرة حول الحرب في اليمن، لا تعكسُ مزاجا عاما لبنانيا أو عداء شعبيا تجاه دول الخليجية العربية، بل هي أكثر خطورة من ذلك إذ تمثل اختصارا للموقف الإيراني المهيمن على لبنان.
عندما اعتبر جورج قرداحي أن المتمردين الحوثيين في اليمن "يدافعون عن أنفسهم ضد اعتداءات السعودية والإمارات"، وصنف العبث الحوثي في اليمن باعتباره "مقاومة"، فإنه كان يستنسخُ المواقف الإيرانية من الإحداثيات السياسية للمنطقة.
خطورة تصريحات قرداحي تكمنُ في كونها جاءت في توقيت سياسي في غاية الدقة بالنسبة للبنان بشكل خاص، وللمنطقة العربية بشكل عام.
جاء تصريح قرداحي في ظرفية لبنانية داخلية يسودها توتر سياسي مترتب عن محاولات تحريك الشارع وفرض لغة الميليشيات على خلفية إجراء التحقيقات في قضية تفجير مرفأ بيروت.
لبنان تتنازعه إرادتان؛ إرادة وطنية لبنانية تكافحُ من أجل إخراج البلد من أزماته العميقة والمتداخلة، وتعي بأن الخروج من الأزمة لن يتحقق إلا بتداعي الأقطار العربية والخليجية لنصرته. وإرادة إيرانية (تمثلها ميليشيا حزب الله) تختطف منذ سنوات القرار اللبناني وتصادر سيادته.
تصريح قرداحي جاء أيضا في توقيت سياسي مشوب بحذر عالمي وأميركي من نوايا إيران فيما يتصلُ بالاتفاق النووي، بعد أن أعلنت طهران عودتها الشهر المقبل إلى المفاوضات التي ستعقدُ في فيينا.
الحكومة اللبنانية حاولت التخفيف من أثر تصريح قرداحي باعتباره مجرد رأي شخصي لا يُلزم الحكومة ولا يمثل موقفها من الحدث اليمني أو من الدور الخليجي في المنطقة، حيث قال نجيب ميقاتي، رئيس الوزراء اللبناني، إن البرنامج الذي ورد فيه التصريح تم تسجيله قبل تشكيل الحكومة بأكثر من شهر، وأن لبنان يسعى لإقامة علاقات متينة مع الدول العربية.
وأضاف ميقاتي أن "رئيس الحكومة والحكومة حريصون على نسج أفضل العلاقات مع المملكة العربية السعودية ويدينون أي تدخل في شؤونها الداخلية من أي جهة أو طرف".
موقف الحكومة اللبنانية لم يوقف سيل المواقف الرافضة للتصريح، ولم يتوصل إلى حجب حقيقة أن تصريح قرداحي هو بمثابة الشجرة التي تخفي غابة القوى المهيمنة على لبنان.
بات واضحا أن تبني الرؤى الإيرانية لقضايا المنطقة أصبح يمثل الباب الوحيد لدخول السلطة والمناصب في لبنان، على ذلك فإن تصريح قرداحي لا يمكن فصله عن تصريحات شربل وهبة، وزير الخارجية في حكومة حسان دياب، في مايو الماضي، المسيئة للسعودية ولدول مجلس التعاون الخليجي.
ولعل المواقف الخليجية المتناغمة في رفضها لتصريح قرداحي، كانت دليلا على أن ذلك التصريح لا يمكن تبريره بالقول إنه سبق عملية توزيره، أو اعتباره موقفا شخصيا معزولا، بل إن المواقف السعودية والإماراتية والكويتية والبحرينية وحتى اليمنية، عبّرت عن فهم وتمثل عميقين لتصريح قرداحي ووضعته في إطاره الحقيقي، وهو أن لبنان واقع في أسر الهيمنة الإيرانية ممثلة في قوى الهيمنة الطائفية بقيادة ميليشيا حزب الله.
المفارقة أن لبنان الذي يكابد منذ سنوات للخروج من أزمته الاقتصادية العميقة، والذي استفذت الحكومات المتعاقبة كل الحلول الممكنة والمتاحة من أجل تلمس سبل الخروج من الأزمة، لم يعد لديه من سند سوى الدول العربية الخليجية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي لم تتأخر يوما عن يد العون المادي والسياسي للبنان، ومع ذلك فإن بعض الشخصيات والقوى اللبنانية دأبت على إصدار مواقف مسيئة للمملكة وأخواتها.
كيف يمكن فهم وتبين هذا التناقض بين واقع بلد يحتاج إلى المساعدة، وبين قوى تستهدفُ دائما من يمدّ يده لمساعدته؟
لا يمكن تفسير هذه المفارقة القائمة على التناقض بين الإجماع اللبناني على أهمية المساعدة السعودية في هذه الظروف، وبين من يحاول عض اليد السعودية الممدودة دائما نحو بيروت، إلا بحقيقة واحدة مفادها أن الإرادة السياسية اللبنانية مختطفة منذ عقود، وأن القوى المهيمنة على القرار اللبناني لا تريد للبنان أن يُشفى من أسقامه وأن ينطلق نحو تحقيق تنميته وبناء اقتصاده الذي حولته الهيمنة الإيرانية إلى اقتصاد ريعي تستوطنُ شرايينه ميليشيا حزب الله.
في هذا التداخل المقيت بين مستقبل الدولة اللبنانية، ومصالح القوى الميليشياوية المهيمنة، كان تصريح قرداحي دليلا جديدا على أن النفوذ الإيراني يتقصّدُ تأبيد بقائه في لبنان عبر إبقاءه في حالة انهيار اقتصادي أصبحت معه أساسيات الحياة- من قبيل الكهرباء والسيولة النقدية والخدمات العامة- ضربا من الأماني.
في هذا الصدد أعلنت الأربعاء، السعودية والكويت والإمارات والبحرين، استدعاء سفراء لبنان لديها؛ احتجاجا على تصريحات قرداحي، مقابل تهليل الحوثيين و"تضامنهم" مع قرداحي في "مواجهة حملة التشهير التي يتعرض لها نتيجة موقفه العروبي والأخلاقي والإنساني المشرّف" حسب زعمهم، مع صمت الكثير من القوى اللبنانية المرتبطة بالمحور الإيراني.
ولو حصل أن شخصية لبنانية أصدرت موقفا ينتقدُ الوجود الإيراني أو عربدة حزب الله، للاقت وابلا من التنديد والتهديد، هذا إن لم يصدر قرار تصفيتها.
وكل هذا يوحي بأن مشروع الدولة في لبنان مهدد بالذوبان مقابل صعود مشروع الدويلة والميليشيا، وهو مشروع تعمل عليه إيران بدأب منذ سنوات، ذلك أن مصير المشروع الإيراني ومستقبله في المنطقة مرتبط بالضرورة بالقضاء على الدولة الوطنية بكل ما تعنيه من مساواة وتعايش وسيادة القانون.
على ذلك فإن ما صدر عن وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي لا يمكنُ اعتباره مجرد تصريح عابر أو محض زلة لسان، بل هو اختصار كثيف للمستقبل الذي تريد القوى المهيمنة أن تخطه للبنان. تريد إيران وميليشيا حزب الله وبقية القوى التي تدور في الفلك الإيراني اختطاف لبنان من مداره العربي، وحرمانه من تنوعه الديني والطائفي، وتحويله إلى دولة مستباحة وفاشلة، ولذلك لن تكون إقالة قرداحي أو استقالته من الحكومة كافية لوقف الردح الإيراني واعتماد لبنان ساحة لاستهداف الخصوم، مثلما فعلت في العراق واليمن وغيرها، بل إن ذلك لن يتوقف إلا باسترجاع الدولة المختطفة في لبنان وانتشالها من المحور الإيراني ومن دويلة حزب الله التي تعلو على الدولة وتتجاوزها.
لذلك كله فإن كلام قرداحي هو أبعد من مجرد تصريح بل هو رجع صدى للمزاج الإيراني في لبنان.