رفيق خوري
جمهورية الملالي في إيران تطبق القاعدة التي تكرست في أميركا والاتحاد السوفياتي السابق، المتشددون أقدر من المعتدلين على المرونة في السياسة الخارجية.
الرئيس الأميركي الأسبق الجمهوري ريتشارد نيكسون فعل ما لم يجرؤ عليه أي رئيس ديمقراطي، وهو الانفتاح على الصين الشعبية بقيادة ماوتسي تونغ بعد عقود من اللااعتراف بها، وإعطاء مقعدها في مجلس الأمن الدولي للصين الوطنية في تايوان.
والزعيم السوفياتي المتشدد ليونيد بريغنيف، بعد لينين وستالين، أدار مع الرؤساء الأميركيين ما سمي الانفراج أو الوفاق الدولي واتفاقات الحد من الأسلحة النووية.
وحين اكتملت سيطرة المحافظين في إيران على كل مراكز السلطة تحت المرشد الأعلى علي خامنئي، من مجلس الشورى إلى رئاسة الجمهورية التي آلت إلى إبراهيم رئيسي، جرى ما توقع بعضهم عكسه، سياسة الانفتاح على المنطقة وحتى على معاودة المفاوضات مع أميركا حول الملف النووي، وسط تمتين "الشراكة الاستراتيجية" مع كل من روسيا والصين.
وكانت سلطنة عُمان كالعادة الوسيط والمكان المناسبين لمفاوضات صعبة قادت إلى الاتفاق السعودي - الإيراني في بكين برعاية الصين وضمانها.
وقبل "اتفاق بكين" وبعده طار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، وأحياناً الرئيس رئيسي، إلى عواصم عدة ضمن سياسة التشدد في الداخل والمرونة في الخارج، وما كانت الجولة الأخيرة لعبداللهيان في أربع دول خليجية سوى استمرار لسياسة المرونة.
مرونة حيال تركيا، ومرونة حيال مصر، ومرونة حيال الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، فلا حواجز أمام الانفتاح الإقليمي كما كانت الحال قبل سنوات، ولا مشكلة لدى طهران وحلفائها في "محور الممانعة والمقاومة" الذي يرفع شعار العداء لإسرائيل ويوحي أنه يعمل لمحوها من على الخريطة في الانفتاح على "دول التطبيع" مع إسرائيل.
وليس هذا فقط لحاجة إيران إلى تجاوز العقوبات وفتح باب الاستثمار لدعم اقتصادها، بل أيضاً في إطار استراتيجية عنوانها الأمن الإقليمي، فالمرشد الأعلى علي خامنئي يرى أن "الحضارة الإسلامية الجديدة العظمى" يجب أن تواجه "التحدي الاقتصادي"، ورئيسي وعبداللهيان يركزان على "ضمان أمن الخليج بأيدي أصحابه"، مع الاتكال على قوة إيران والإصرار على إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وهذا يعطي جمهورية الملالي في الهيمنة على الخليج دوراً أكبر من دور "شرطي الخليج" أيام الشاه.
والسؤال هو ما مصير "اتفاقات أبراهام" بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب والتي عملت لها أميركا أيام الرئيس السابق دونالد ترمب، وتصر في أيام الرئيس الحالي جو بايدن على أن تشمل بلداناً أخرى؟ وإلى أي حد يمكن "التساكن" بين الانفتاح الإيراني على الدول العربية وتركيا وبين التطبيع مع إسرائيل؟ وأين تبخر كل الكلام على "ناتو إقليمي" من جانب الراغبين فيه والخائفين منه؟
لا أحد يجهل أن الخوف من الهيمنة الإيرانية كان أحد العوامل التي أدت إلى توقيع "اتفاقات أبراهام"، وهي عوامل بعضها اقتصادي يتعلق بالاستثمارات والشراكات مع إسرائيل، وبعضها الآخر أمني لجهة التصور أن الدور الأمني لإسرائيل يوازن الدور الإيراني ويكون البديل عن الدور الأمني الأميركي أو الرديف له، لأن اهتمامات واشنطن صارت في مكان آخر.
لكن هذا التصور ليس واقعياً، فلا إسرائيل قادرة على هذا الدور بافتراض أنها راغبة فيه، ولا الأمن الإقليمي مسألة متروكة للقوى الإقليمية وحدها، حيث أميركا وفرنسا وروسيا والصين في المنطقة.
والامتحان القريب للأمن الإقليمي هو في اليمن بعد "اتفاق بكين"، فالخطوات بطيئة جداً، والقائم بالأعمال الصيني في اليمن شاو تشينغ "دعا الحوثيين إلى التخلي عن الخيار العسكري والعودة لطاولة المفاوضات" والاعتراف بأن "الثقة المتبادلة بين الأطراف معقدة بعد سنوات من الحرب، والعلاقات بين دول المنطقة لا تزال في وضع هش".
المشكلة أن اللعبة بين إيران وتركيا وإسرائيل تدور على المسرح العربي، لكن العامل الجديد المهم هو عودة الدور العربي بقيادة السعودية.