كان سلمان رشدي يظن في السنوات الأخيرة، أنه بات في مأمن من شر الفتوى التي أصدرها الخميني عام 1988 مهدراً فيها دمه ومبيحاً قتله، وراح يعلن جهاراً ومن دون تردد، أن هذه الفتوى أصبحت وراءه. وفي معظم الحوارات الصحافية التي كان يجريها، كان يصر على ترداد هذه الجملة، معلناً خروجه النهائي من حصار الفتوى الرهيبة، وتخطيه حال الخوف والقلق اللذين أرهقاه طويلاً، وجعلاه يعيش حياة سرية ومقيدة، كما كتب في سيرته المقنعة التي صدرت العام 2012 بعنوان "جوزف أنطون: مذكرات". بل هو لم يتلكأ عن السخرية من رفع سعر قتله في إيران، عندما أعلنت منظمة دينية إيرانية شبه رسمية عام 2012 أن مبلغ المكافأة على رأس رشدي ارتفع من 2.8 مليون دولار إلى 3.3 مليون دولار. استهان رشدي بهذا الإعلان، وقال إنه ليس من دليل على اهتمام الناس بالجائزة، وفي رأيه أن السعر هذا يرتفع كما في مزاد لا أحد يعلم من وراءه تحديداً، والغاية هي التهويل، حتى المبلغ ليس معروفاً من سيوفره ولا من سيدفعه.
غير أن تفاؤل سلمان رشدي الذي حرره من الحذر والريبة وأعاد إليه في السنوات الأخيرة مقداراً من الحرية، لم يطل كثيراً، بل لم يكن صائباً تماماً. صحيح أنه أتاح له فرصة استعادة طعم الحياة الشخصية والأدبية، وسمح له بالتنقل في الولايات المتحدة وأوروبا وسواهما براحة، فسافر وعقد اللقاءات وحاضر وشارك في المعارض والتقى الصحافة والقراء... لكن هذه الحرية المستعادة بدت أضعف من ردود الفتوى التي ظلت تخامر بعض الأصوليين على اختلاف هوياتهم، وقد يكون الحادث الرهيب الذي حصل، صباح أمس في نيويورك، خير دليل على ديمومة الفتوى. انقض شاب متطرف على رشدي، بينما كان جالساً على المنصة في المؤتمر، وراح يطعنه بسكين في رقبته حتى أوقعه أرضاً، والدم ينزف منه بقوة، مفرغاً فيه عنفه الخميني.
لم يطلق المعتدي الإرهابي الرصاص على رشدي، بل استخدم الطريقة التي تم بها طعن نجيب محفوظ عندما كان متوجهاً إلى المقهى، فالطعن أشد عنفاً من الرصاص، ويجعل القاتل ينكب على ضحيته وكأنه يلقنه درساً مباشراً، من غير أن يرف له جفن. أما الشاب المتطرف الذي أعلنت الشرطة اسمه بل اسميه (هادي مطر، حسن مغنية) اللبناني الأصل والأميركي الجنسية، فهو واحد من المأخوذين بفتوى الخميني، حفظها في ذاكرته الغريزية منتظراً اللحظة المواتية لينتقم ويحقق أمنية الإمام. وبينما استنكرت كل وسائل الإعلام في العالم الحادثة، وشجبتها الدول والحكومات والمؤسسات، تفردت وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية والخاصة، عبر تغطيتها الحادثة، بوصف رشدي بـ"الشرير المرتد"، واستعادت نص الفتوى الخمينية، وكأنها تبارك الحادثة وتحتفل بها. على أنّ صحيفة "كيهان" المتشددة وشبه الرسمية، هنأت "البطل" اللبناني على فعلته. والأمل الآن أن يشفى الروائي الكبير، وأن تكون إصابته غير حرجة، وأن يخرج سليماً وسالماً من أي عطب يهدد قدرته على الكتابة.
هل أخطأ سلمان رشدي في حساباته، هل تفاءل أكثر مما ينبغي، هل خانه حدسه الذي أوحى له بنهاية حال الحصار؟
بعد كتابته روايته السير ذاتية وعنوانها "جوزف أنطون"، شعر رشدي أن عبء الفتوى الذي أقض حياته ليلاً ونهاراً وأرهقه طوال أعوام زال فعلاً، فكانت تلك الرواية بمثابة فعل تطهر من رهبة الخوف والرعب والقلق التي طاردته، وفيها سرد تفاصيل المحنة التي عاشها شخصاً وكاتباً، منتحلاً ملامح البطل الذي شاءه نسخة عنه ولكن باسم أجنبي هو جوزف أنطون. شفي رشدي من حمى الفتوى الخمينية بعد أن أنهى آخر سطر من هذه الرواية الأوتوبيوغرافية واستعاد السلام الداخلي الذي كثيراً ما افتقده. ومنذ اختياره العيش في نيويورك بدءاً من عام 1999، لم يواجه حادثة أو اعتداء، لكنّ ما كان يزعجه هو نظر القراء إليه وإلى أعماله من زاوية الفتوى، فهو يريد أن يكون الكاتب سلمان رشدي فقط، وليس الكاتب الذي حلت عليه الفتوى الخمينية، وجذبت إليه أنظار العالم، وزادت من شهرته ورواج كتبه.
في تلك السنوات يذكر القراء كيف استعاد رشدي شجاعته وانتقل إلى موقع الدفاع، فهاجم "داعش" و"القاعدة" بجرأة، وفي حسبانه أن تنظيم "داعش" بات في الرمق الأخير وسقوطه أضحى وشيكاً، وقد يفقد خلال عام الأراضي التي يسيطر عليها. لكنه لم يبرئ الغرب من التواطؤ في كل قضايا الشرق الأوسط، واسترجع ظاهرة الخميني قائلاً: "لو لم يعمد الغرب إلى خلع الشاه هل كان ليأتي الخميني؟".
عندما تمكن رشدي من استعادة السلام الذاتي والهدوء، كتب واحداً من أجمل أعماله، وهو "جوزف أنطون: مذكرات" (2012). والمذكرات هنا قد تعني سيرة ذاتية ورواية أوتوبيوغرافية، وكان اختار رشدي عنوان الكتاب من الاسم المستعار الذي اختاره لنفسه في سنوات الاختفاء، ويروي وقائع هذه السنوات وكيف عاش خلالها، شخصاً وروائياً وكاتباً، وكيف تنقل بين أماكن سرية متعددة تحت حراسة مشددة ودائمة.
اختار رشدي صيغة ضمير الغائب ليروي سيرة هذا "البطل" الذي يدعى جوزيف أنطون. واختار رشدي هذا الاسم دامجاً بين اسمي كاتبين يحبهما، هما جوزيف كونراد وأنطون تشيخوف. علماً أنه تحدث مراراً عن إعجابه بإيتالو كالفينو وتوماس بينشون وبورخيس وميخائيل بولغاكوف ولويس كارول وغونتر غراس وجيمس جويس وسواهم. ويقال إن رشدي حذف من النسخة الأصلية للكتاب نحو 200 صفحة حتى أضحى في 656، مما يدل على أنه كان متحمساً للكتابة بغزارة كي يشفي غليله الروائي.
تبدأ الرواية في صبيحة احتفال العالم بما يسمى "عيد الحب" (اختاره رشدي قصداً)، عبر اتصال تجريه صحافية في "بي بي سي" بالمدعو سلمان رشدي وتعلمه أن حياته السابقة هي على شفا النهاية، وأن حياة جديدة ستبدأ، لكنها ستكون غامضة ومجهولة الخاتمة، والذريعة إصدار الإمام الخميني فتوى يحكم عليه فيها بالإعدام. هذه المقدمة هي التي تفتتح حياة رشدي أو "جوزف أنطون" الجديدة، الحياة السرية، حياة التنقل من مكان إلى آخر، حياة القلق والخوف وعدم الاستقرار. بدا جواب رشدي على اتصال الصحافية طريفاً جداً إذ قال: "هذا لا يولد شعوراً جيداً"، وكأنه لا يعي ما يقول تماماً، بل إن السؤال الذي فاجأه جعله يشعر أن نور الشمس حجب عنه، وكان لا بد أن يخاطب نفسه: "أنا رجل ميت".
في سنوات الحرية أيضاً، وتحديداً عام 2015 أصدر رشدي رواية بديعة بعنوان "سنتان وثمانية أشهر وثمان وعشرون يوماً وليلة"، وفيها استعاد أسلوبه المعروف الذي يستند إلى التخييل والغرائبية والفانتازيا، وقد شاء بنيتها شبيهة بـ"صندوق الأسرار" الصيني المركب من طبقات عدة.
روايته هذه تدور إذاً في جو سحري ومتوهم، ولكن غير منفصل عن التاريخ والواقع، مما يذكرنا بتحفته البديعة "أطفال منتصف الليل" التي فازت بجائزة بوكر مرتين. وليس عنوان الرواية إلا تفكيكاً لعنوان "ألف ليلة وليلة"، وإعادة كتابته في طريقة حسابية أخرى. وهذا ما يدل على الأثر الذي تركته فيه حكايات شهرزاد الضاربة جذورها في أديم الغرائبية الشرقية القديمة، والذي استمد منه كثيراً من حكاياته وأشخاصه ووقائعه... لكن رشدي يؤمن أن الأدب الغرائبي يجب ألا ينفصل عن الواقعية، فإذا لم يوجد الواقع تمسي الغرائبية مجانية وبلا قيمة. هذه المعادلة هي التي وسمت صنيعه الروائي وجعلته يقترب من الحكايات الخرافية الهندية ومن الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية ومن السوريالية الفرنسية. ومن يقرأ روايته هذه، يصعب عليه فعلاً تصور ابن رشد الفيلسوف العقلاني والمتنور، يتزوج من جنية وينجب منها سلالة، ويصعب عليه أيضاً تخيل مخلوقات بشرية تمشي مرتفعة عن الأرض سنتيمترات. لكن الرواية القائمة على التخييل والفانتازيا هي في الآن نفسه رواية سياسية ومدينية ورواية أفكار. فابن رشد يحضر كفيلسوف صاحب آراء ومواقف تنويرية ويساجل الغزالي في "تهافت التهافت". أما العصر الراهن فيحضر بشدة في الرواية، وهو عصر الانحرافات والفضائح، عصر العنف والشر، العصر المتراوح بين نزعتين، العقلانية واللاعقلانية. ولم يكتف رشدي بجو "ألف ليلة و ليلة" الغرائبي، بل استوحى أيضاً بناءها المتداخل الحلقات، لينسج الحكاية من قلب الحكاية.
في عام 2019 نشر رشدي رواية فريدة بجوها الحكائي هي " كيشوت"، وقد استوحاها من رواية سرفانتس المشهورة "دون كيخوتي". "كيشوت" في الرواية رجل هندي تقدم به العمر، يعيش في أميركا، مهنته بائع متنقل للمنتجات الصيدلانية. تصيبه سكتة دماغية، فتجعله عاجزاً عن السيطرة على نفسه وعلى مماشاة حياته الواقعية واليومية، فيقضي وقته جالساً أمام تلفزيون الواقع يشاهد البرامج. في وسط هذه الحياة الروتينية، يتهيأ له مرة أنه سيحل ضيفاً في برنامج حواري يشبه برنامج أوبرا وينفري، لكنّ الإعلامية التي تقدمه سيدة هندية جميلة تعيش في نيويورك، اسمها "سلمى ر". في الرواية يسعى رشدي إلى معارضة رواية سرفانتس "دون كيخوته"، فيدفع بطله كيشوت إلى خوض غمار المغامرات، كي يبدو جديراً بحب سلمى. ولكن هنا، لا بد له، وهو الذي لم يُرزق أولاداً، من اختراع ابن وهمي يسميه سانشو يكون رفيقه في الحل والترحال. غير أن سانشو يخونه وينطلق في مغامرة أخرى تشبه المغامرة التي قام بها بينوكيو، عندما صمم على أن يصبح فتى حقيقياً من لحم ودم.
هذه الرواية تعد حتى الآن رواية رشدي الأخيرة ذات الرقم 19، وقد يكون كتب رواية جديدة، لا تزال مخطوطة. ترى هل يتمكن رشدي من العودة إلى الكتابة بسهولة بعد هذه الحادثة؟ هل تعيده محاولة الاغتيال إلى حياته السابقة، السرية والمحاصرة، التي لم يصدق أنه خرج منها إلى فضاء الحرية؟