Ana içeriğe atla

أغوتا كريستوف اختارت الفرنسية لتكتب مأساتها

أغوتا كريستوف
AvaToday caption
تصف هذه الكاتبة اللغة الفرنسية بأنها لغة عدوة، فهي لغة المنفى، لغة الهجرة، لغة الوحدة القاتلة والحنين إلى الوطن. هي لغة فقدان الانتماء والهوية
posted onJuly 27, 2021
noyorum

في الذكرى العاشرة لرحيلها (27 يوليو/ تموز 2011) تحتفل فرنسا وهنغاريا بالكاتبة المجرية الفرنسية أغوتا كريستوف (Ágota Kristóf)  التي اعتنقت الفرنسية لغة تعبير وأبدعت فيها روايات ونصوصاً مسرحية عرفت نجاحاً عالمياً، وترجمت إلى ثلاثين لغة، منها العربية.

ولدت أغوتا كريستوف في هنغاريا أو المجر عام 1935 لوالدين متعلمين مثقفين وانتقلت قسراً لتعيش في سويسرا وهي في الحادية والعشرين من عمرها، فراراً من القوى السوفياتية التي قمعت الثورة المجرية التي اندلعت عام 1956. اضطرت أغوتا كريستوف، هذه الفتاة العشرينية الشابة التي بدأت بكتابة الشعر بالهنغارية منذ سن صغيرة، إلى ترك كل شيء خلفها والهرب مع زوجها وابنتها ذي الأربعة أشهر إلى سويسرا، حيث ستجبر على البدء من الصفر على مختلف الأصعدة، فلا هي تملك المال ولا هي تملك وظيفة ولا حتى تتحدث الفرنسية، لغة تلك المنطقة من سويسرا. اضطرت هذه الفتاة الطموح إلى تعلم لغة جديدة ونمط حياة جديد هي التي لم تحمل معها من بيتها سوى حقيبة فيها حليب لابنتها وحقيبة أخرى مليئة بالمعاجم اللغوية، معاجم لم تتخل عنها يوماً ودأبت على الاستعانة بها طيلة حياتها التي امتدت على حوالى خمسة وسبعين عاماً.

مفاجآت قاسية

لم تعلم أغوتا كريستوف، الشابة التي رغبت في الرحيل إلى الولايات المتحدة الأميركية لتعيش هناك وتربي ابنتها، أن الحياة خبأت لها مفاجآت قاسية. فقد اضطرت هذه الفتاة المهاجرة، حالها كحال حوالى مئتي ألف مجري هارب من جنود الاتحاد السوفياتي، إلى العمل لخمس سنوات في معمل متواضع في مدينة سويسرية تتحدث بالفرنسية. سنوات خمس جعلت أغوتا كريستوف تشعر أنها شابة أمية جاهلة لكونها لا تجيد التحدث بالفرنسية ولا قراءتها ولا كتابتها. وقد كانت مهمة تعلم الفرنسية شاقة، شبه مستحيلة، في مصنع بالكاد تتبادل فيه كريستوف بعضاً من الكلمات الفرنسية مع غيرها في خلال ساعات دوامها، بينما تعلم قراءة الفرنسية وكتابتها أمراً بالغ التعذر نظراً لظروفها المعيشية.

سنوات خمس مرت، حولت أغوتا كريستوف إلى الكاتبة التي صارتها لاحقاً وكانت بذور رواياتها ونصوصها المسرحية الأخرى. ولن تنشر أغوتا روايتها الأولى "الدفتر الكبير" سوى عام 1987 وهي في الخمسين من عمرها، رواية أولى مكتوبة بالفرنسية، تبعتها نصوص أخرى من بينها الثلاثية ومن ثم رواية "أمس" وأخيراً رواية "الأمية" وهي سيرة كريستوف وسرد لمعاناتها مع اللغة والهجرة وقسوة الحياة.

أغوتا كريستوف

ويمكن اعتبار السنوات الخمس الأولى التي أمضتها أغوتا كريستوف في سويسرا نوعاً من طقس العماد أو رسم مرور ضرورياً لصقل كريستوف وتحويلها إلى الكاتبة التي صارتها لاحقاً، كاتبة ذات أسلوب مقتضب سريع مكثف، لا تميل إلى وصف المشاعر بل تنقل الحقيقة والأمور على ما هي عليه. لقد صقلت الخيبات الكثيرة التي عاشتها أغوتا كريستوف شخصيتها، وبخاصة السنوات الخمس الأولى من هجرتها. خمس سنوات ندمت فيها كريستوف على زواجها وفرارها من وطنها وربطها مصيرها بمصير زوجها الناشط السياسي. وبعد هذه السنوات الخمس تركت كريستوف زوجها وعملها وتعلمت الفرنسية وتحدت الصعوبات لتكتب، فجاءت سيرتها في رواية "الأمية" مرآة صراعها للشعور بالانتماء والقوة.

الكتابة بلغة عدوة

اختارت أغوتا كريستوف أن تكتب بالفرنسية هي الهاربة من هنغاريا أو المجر عقب فشل الثورة المجرية عام 1956، وتصف هذه الكاتبة اللغة الفرنسية بأنها لغة عدوة، فهي لغة المنفى، لغة الهجرة، لغة الوحدة القاتلة والحنين إلى الوطن. هي لغة فقدان الانتماء والهوية، فتقول في مقابلة مجراة معها: "لقد كانت الفرنسية تقتل لغتي الأم؛ كانت بالنسبة إلي لغة عدوة".

وتطرح أغوتا أسئلة كثيرة حول علاقة اللغة بالانتماء، وحول علاقة اللغة بالرغبة بالتحدي والبقاء، فتسأل في مقابلة لها: "لم أعلم كيف أعيش في بلد آخر، إنها قضية البقاء؛ كيف نكمل العيش في بلد آخر، في لغة أخرى، وعندما نعود ماذا تراه يبقى لنا؟".

برحيلها عن أرضها خسرت كريستوف انتماءها إلى لغتها، فعلى الرغم من أنها بدأت تكتب الشعر بلغتها الأم في سن صغيرة، توقفت عن ذلك مع هجرتها، توقفت عن الكتابة وعن القدرة على التعبير عن نفسها، وبرحيلها عن أرضها رحلت عن لغتها. وقد حالت اللغة الفرنسية دون نشر هذه الكاتبة أي نص أو عمل لسنوات، وتحول هذا الجهل بالفرنسية إلى حاجز جديد يجب أن تتخطاه الكاتبة لتجد انتماءها وهويتها وتتمكن من التعبير عن الحنين والحزن اللذين كانا يتآكلانها.

سنوات طويلة مرت وكريستوف تنازل الفرنسية إلى أن تمكنت من نشر روايتها الأولى عام 1987 لدى دار أكت سود بعنوان "الدفتر الكبير". فلقي عملها نجاحاً باهراً ومباشراً وكان بداية ثلاثيتها وأعمال أخرى لها سرعان ما لقيت نجاحاً فرنسياً وعالمياً. وقد عكست كتابات أغوتا كريستوف هجرتها الجغرافية، وتحولت إلى هجرة لغوية أيضاً، فالكاتبة التي غادرت أرضها غادرت لغتها أيضاً، فتقول: "الكتابة عمل متعب بمكان. الكتابة مؤلمة. هناك كتاب يكتبون بغزارة ويكتبون كيفما اتفق، أما أنا فأردتُ أن أكتب هجرتي ورحيلي عن مدينتي وإخوتي وبلدي. لم أكن أرغب بالرحيل لكن زوجي الذي يتعاطى الشأن السياسي كان يجب أن يهرب من السوفيات فهربتُ معه. كان من الأفضل لو قضى عامين في السجن بدلاً من أن أمضي أنا خمسة أعوام في ذلك المصنع".

الحياة دوماً أقسى

تتميز كتابات أغوتا كريستوف بشيء من الوحشية الفذة، فلا تخشى هذه الكاتبة الحائزة جوائز متعددة، إيصال الوجع والقلق والغضب إلى قارئها، لا تخشى أن تحمل نصوصها مآزق الحياة وقسوتها، بل نراها تقول في أحد المواضع: "مهما حمل كتاب من أحزان، فهو لن يضارع أحزان الحياة".

ويحمل أدب أغوتا كريستوف الحزن والغربة والوحدة والقسوة، حتى إن بطلي ثلاثيتها الصغيرين يروحان يتمرنان على القسوة والوحشية لئلا تكسرهما الحياة وتقوى عليهما، فيقول أحد التوأمين في رواية "الدفتر الكبير": "يصفعنا أناس آخرون أيضاً ويركلوننا بأقدامهم، من دون حتى أن نعرف السبب. تؤلمنا الضربات وتبكينا. السقطات والخدوش والجراح والعمل والبرد والحر، أيضاً، تسبب لنا الألم. قررنا تقوية أجسادنا، حتى نستطيع تحمل الألم، من دون أن نبكي. بدأنا نتبادل الصفعات، ثم بعدها اللكمات... ليس الأمر سوى تمرين". (ص20)

تجعل أغوتا كريستوف بطليها اليافعين في ثلاثيتها يتمرنان على القسوة لأن الحياة قاسية، فيقول أحد التوأمين: "يجب أن نجيد القتل عند الضرورة". وكأن القتل والقسوة والقبضة الحديدية من أصول القوة والعيش والقدرة على البقاء، وكأن أغوتا كريستوف تقول دوماً أبداً: في النهاية البقاء هو للأقوى.

تعرف المكتبة العربية والقراء العرب بالتالي ثلاثية أغوتا كريستوف الشهيرة التي صدرت بالعربية عن منشورات الجمل في ترجمة الشاعر اللبناني بسام حجار والكاتب المغربي محمد آيت حنا، وهي: "الدفتر الكبير" و"البرهان" و"الكذبة الثالثة".