د. سالم حميد
منذ الغزو الأميركي للعراق، وجدت إيران في الغياب العربي الدبلوماسي عن بغداد فرصة ذهبية لملء الفراغ. وكلما داهمت العراقيين الأحداث والأزمات، يظهر الدور الإيراني بشكل خطير وبشع في مقابل الغياب العربي المستمر للأسف.
وخلال الأسبوع الماضي فتحت الاحتجاجات الشعبية الغاضبة ملف التدخل الإيراني في العراق على لسان رجل الشارع العراقي البسيط، من خلال شعارات المتظاهرين، وكأنهم بالحس الشعبي العام يكشفون عن الخطأ الفادح الذي وقع فيه العرب، عندما تركوا إيران تسرح وتمرح في العراق على هواها، وتعيد بمفردها تشكيل الخارطة السياسية العراقية وتصنع الولاءات التي تعمل لصالحها.
بينما كان العراق، ولا يزال، يمثل البوابة الشرقية للعرب، التي صمدت في وجه المد الفارسي طويلاً إلى أن حدث ما حدث. وكان إسهام صدام حسين في الانهيار لا يقل عن بقية التداعيات التي تسلسلت وأدت إلى الوضع الراهن.
بل إن استهتار صدام فتح الباب واسعاً أمام التداعيات التي أوصلت العراق إلى المرحلة الراهنة من الضياع والفساد السياسي والانهيار الاقتصادي، خاصة عندما تورط في غزو الكويت، وهي اللعنة التي جلبت للعراق العديد من الأخطار التي يعاني من آثارها الجانبية حتى اليوم.
كان الانسحاب الأميركي من العراق ومحاولة بناء سلطة عراقية شرعية جديدة فرصة لاستعادة العراق أنفاسه وعودته إلى أحضان محيطه العربي، لولا أن العرب تأخروا كثيراً وترددوا في التقاط زمام المبادرة بالعودة الدبلوماسية الكاملة إلى بغداد، بينما كان الجانب الإيراني يستغل حالة الضعف والتفكك في المشهد العراقي ليصنع ويثبت نخبة سياسية عراقية جدية موالية لطهران وممثلة لنهجها ومخططها.
بل وصل الحال إلى محاولة طهران القيام بإعادة صياغة سيكولوجية الشارع العراقي، من خلال إحياء وتعميم طقوس مذهبية في عراق ما بعد صدام حسين، تبرز التبعية الروحية والسياسية الكاملة لإيران.
ومن كوارث الاحتلال الأميركي للعراق أيضاً أنه قام بتفكيك مؤسسات الدولة العراقية وجيشها، ما ولد فراغاً أتاح بناء مؤسسات طائفية ومحاصصات شرّعت للفساد والخراب والانقسامات الطائفية، وهو ما أخرج العراقيين إلى الشوارع هذه الأيام لرفضه والتعبير عن السأم والشعور بخطر استمرار ذلك النهج الذي ترعاه إيران.
وفي علم السياسة هناك دائما صراع نفوذ وفراغ ينتظر من يحتله أو يفرض نفوذه ويعيد صياغته، لكن إيران لم تجد من ينافسها في العراق أو يزاحم نفوذها بعد خروج الولايات المتحدة ومنحها الساحة السياسية العراقية للموالين لإيران.
بينما لم يكن الجانب العربي بحاجة إلى بذل مجهود خرافي لاستعادة الدور العراقي ومنحه عوامل التعافي والاستقلالية، لأن الأساس كان موجوداً من قبل، ولطالما كان العراق رسمياً وشعبياً حاضراً بقوة في الوجدان العربي متأثراً ومؤثراً في كل القضايا.
وحان الوقت للاعتراف بالخطأ الذي ارتكبه العرب عندما تركوا العراق فريسة سهلة للنفوذ الإيراني، لأنهم لم يلتفتوا إلى بغداد وهي في أشد الحاجة إليهم، إلى أن تمكنت طهران من زراعة نخبة طائفية مذهبية في الحقل السياسي والتنفيذي العراقي.
ورغم أن من يوالونها في العراق من لونها المذهبي المغلق إلا أن إيران تسعى في الوقت ذاته إلى جعلهم ينقسمون إلى مجموعة من الكتل المتنافسة والمتنافرة حتى لا تستيقظ يوما وقد وجدت العراقيين على كلمة واحدة.
فما يخيف إيران في الساحة العراقية هو أن تفقد الورقة المذهبية والانقسامات وأن يبني العراقيون من جديد دولة علمانية تسحب البساط من تحت طهران، التي تعمل على التفرقة بين العراقيين تحت شعارات مذهبية.
بينما نجد أن تاريخ العراق الحديث قائم على التعايش والولاء الوطني العابر للمذاهب والقوميات.
للأسف الشديد أطال العرب المكوث في فترة البكاء على العراق والحديث عن ضياعه وذهابه إلى أحضان إيران، لكنهم لم ينتقلوا من مرحلة الندم إلى مرحلة العمل.
رغم أن الفرصة لا تزال متاحة، خاصة مع اشتعال الغضب الشعبي تجاه الفساد الذي تمارسه النخبة الموالية لإيران في الساحة العراقية.
لقد أصبح خروج إيران وفقدان سيطرتها على العراق بحاجة إلى معجزة، بعد أن زرعت في كافة مفاصل الحكم والمجتمع من يدينون بالولاء لها سياسياً ومذهبياً.
لكن الوضع اختلف بشكل دراماتيكي خلال الأيام الماضية التي أظهرت ارتباك إيران ومن ينفذون مشروعها في العراق، لأن الاحتجاجات الساخنة رفعت كذلك شعارات ضد فساد أتباع إيران، مما يمنح العرب فرصة ربما لن تتكرر لاستعادة العراق المستقل عن النفوذ الإيراني، كما توفر حالة الغليان الشعبي في المجتمع العراقي مدخلاً مناسباً للعراقيين أنفسهم لإعادة صياغة المشهد السياسي بعيداً عن الطبقة التي تتحكم بثروة العراق منذ سنوات، وتركته يعاني انهيار الخدمات الأساسية، رغم أن العراق من أهم الدول المصدرة للنفط.
فهل سيعمل العرب على الاستجابة للروح العراقية التي أعلنت عن التململ تجاه النفوذ الإيراني؟ لأن ما يحدث من تململ ربما لن يتكرر بسهولة، في ظل استخدام إيران لميليشيات موالية لها لقمع الغاضبين، مما يشعل غضب الشارع العراقي أكثر، ويوفر مدخلاً لتعافي العراق من داخله أولاً بعد أن تأخر العرب عن القيام بالدور الطبيعي تجاه جزء كبير وأصيل من خارطة المنطقة العربية، التي تحاول فئران إيران التسلل إليها في كل الظروف والمنعطفات.
رئيس مركز المزماة للدراسات والبحوث- دبي