محمد بن صقر السلمي
في قرار ربما لم يفاجئ كثيرين، قررت الإدارة الأمريكية عدم تمديد الاستثناءات لثماني دول لاستيراد النفط الإيراني، في خطوة تُظهِر جدّية واشنطن في تطبيق سياسة “أقصى درجات الضغط” بحزم على طهران بهدف انصياع الأخيرة للمطالب الأمريكية الاثنَي عشر والعودة إلى طولة المفاوضات، ولكن بشروط مختلفة عن تلك التي وقّع عليها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، والتي يصفها دونالد ترامب بـ” الاتفاق الأسوأ” في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
بين مرحّب ومندّد بالخطوة الأمريكية ومراقب للتطوُّرات ومسارها، يبدو أننا في نهاية المطاف على مشارف مرحلة تاريخية جديدة في عمر النظام الإيراني ومفترق طرق لم تواجهُّ طهران منذ الثورة، ممَّا أدَّى إلى حالة من الارتباك في تصريحات المسؤولين الإيرانيين، فمنهم مَن هدد بإغلاق مضيق هرمز إن لم يُسمح لإيران بتصدير نفطها، وآخر حاول بعث رسائل تهدئة ولو بإمكانية التفاوض وإن كان على مستوى أقل بكثير من المطلوب، وثالث أراد أن يجد مسارًا وسطًا فقال: “إننا لن نغلق مضيق هرمز، ولكن على السفن الأمريكية إذا أرادت العبور من المضيق أن تطلب الإذن من القوة المكلَّفة بالحماية، المتمثلة في الحرس الثوري تحديدًا”.
إن كانت إيران بدأت الاستعداد لفصل جديد، وصيف يبدو أكثر سخونة، من خلال استدعاء جزء كبير من الميليشيات المتناثرة بين العراق وسوريا ومن عدة جنسيات، لتتمركز في المنطقة المتاخمة للحدود العراقية الإيرانية، خشيةً -على ما يبدو- من تعرُّض تلك الميليشيات لاستهداف الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن صنّفَت الحرس الثوري (وبالتالي الميليشيات المرتبطة به كافة) تنظيمًا إرهابيًّا أجنبيًّا، وتحاول طهران أن تحافظ على هذا الاستثمار طويل الأمد الذي كلفها كثيرًا طوال العقود الماضية.
يبدو أن النظام الإيراني الذي أدخل هذه الميليشيات إلى الداخل الإيراني بطرق تبدو مريبة وغير شرعية من وجهة نظر الشارع الإيراني، أراد حمايتها لأنه يستبعد تنفيذ أمريكا أو إسرائيل أو غيرها ضربات عسكرية في العمق الإيراني، وإذا ما حدث ذلك الاستهداف فإنه قد يقود إلى توحيد الجبهة الداخلية الهشة حاليًّا، في خطوة تُبرِز واقع اللجوء إلى استراتيجيات قديمة متجددة يلجأ إليها النظام عند الحاجة، بخاصَّة إذا ما واجه تحديات داخلية، وأعني هنا سياسة “الهروب إلى الخارج”.
مع إبراز واشنطن سياسة الحزم مع طهران بعد قرارها الأخير، يدخل هذا التوتُّر مرحلة صعبة للغاية، خياراتها محدودة، والتراجع منها يمثّل خسارة كبيرة، والتقدُّم في نفس المسار قد يقود إلى نتائج كارثية على المنطقة والعالم.
لم تخرج طهران حتى اللحظة من مرحلة الصدمة، وأنظارها في الغالب إلى ثلاث دول رئيسية هي الصين وروسيا والهند، أما بكين، المستورد الأول للنفط الإيراني، فرغم تقليصها الكميات القادمة من إيران بنسبة 20% تقريبًا خلال شهر أبريل، فقد أعربت عن تضامنها مع طهران وإعلانها عدم التزام العقوبات الأمريكية أحادية الجانب. من الخطأ أن تعتقد إيران أن الصين سوف تسعى في الوقت الراهن لمزاحمة أمريكا لأن المشروع الصيني لا يزال في مراحله الأولى ويحتاج في كثير من الأحيان إلى سياسة الانحناءات الدبلوماسية والسياسية.
أما الهند التي تأتي في المركز الثاني من حيث استيراد النفط الإيراني فسرعان ما أعلنت عن البدء في البحث عن بدائل للنفط الإيراني، ويبدو أنها توقعت هذه الخطوة مبكرًا فلم تخاطب طهران حول حاجتها من النفط لشهر مايو، لانتظار الإعلان الأمريكي الذي وافق توقعاتها، وما هي إلا ساعات بعد إعلان واشنطن حتى أعلنت نيودلهي عن قرارها.
بدورها أعلنت روسيا إدانتها القرار الأمريكي، لكن واقع الأمر أن موسكو لا تستطيع عمل كثير لطهران عند الحديث عن الجانب الاقتصادي، بل إن القرار الأمريكي قد يعود بالفائدة على روسيا بشكل غير مباشر، بخاصة في ما يتعلق بأسعار الغاز.
الدولة الرابعة المهمة في هذا الاتجاه هي تركيا، التي تشترك مع إيران حدوديًّا، وبين البلدين علاقات اقتصادية كبيرة، وتستورد أنقرة كميات كبيرة نسبيًّا من النفط الإيراني. أنقرة بدورها أيضًا أدانت القرار الأمريكي، لكن أردوغان يبحث عن مقايضات سياسية مع ترامب، وقد يتحقق ذلك وتعيد أنقرة النظر في العلاقة الاقتصادية مع إيران، بخاصة في ما يتعلق باستيراد الطاقة. أخيرًا، نجد العراق في حالة صعبة جدًّا، فواشنطن اعتبرتها مؤقَّتًا حالة خاصة، والعراق لا يستطيع فعل كثير في ظلّ الواقع السياسي الذي تعيشه البلاد. المهلة الممنوحة للعراق تنتهي بعد شهر ونصف تقريبًا، ولكن يظلّ القرار الأمريكي في هذا الصدد غامضًا ومشوشًا.
في المجمل، سيكون عنوان هذا الصيف متمثلًا في “حالة الترقب والجهوزية”، وقد يقود خطأ صغير هنا أو هناك إلى تصعيد مفاجئ، وقد يرتكب الحرس الثوري خطوة حمقاء وغير محسوبة تكون شرارة لسلسلة غير منتهية من الحرائق في المنطقة.
الواقع والمنطق يقولان إن المسؤولية الكبرى تقع في المقام الأول والأخير على عاتق طهران، وعليها التوقف عن التفكير في الانتخابات الأمريكية القادمة وهل سيعاد انتخاب ترامب أم لا، كما يجب على إيران عدم ارتكاب خطأ المفاوضات النووية السابقة مجدَّدًا وعدم الاعتقاد أن أي اتفاق مع الغرب ستقبل به دول المنطقة، فهذه الحسابات الخاطئة يجب أن تكون من الدروس المستفادة للنظام الإيراني من تجربة الاتفاق النووي الذي وُقع عام 2015.
النظام الإيراني يحتاج في هذه المرحلة أيضًا إلى عدم التفكير في مشاريعه التوسعية وطموحاته الإمبريالية، وعملياته القذرة عبر المليشيات، والبدء بخطوات حقيقية لتحويل إيران من ثورة إلى دولة والتخلي عن سياسة تبادل الأدوار التي ظل يمارسها لعقود، فعلى الرغم من الثمن الباهظ الذي قد يدفعه النظام بسبب تبدُّد أحلامه الخارجية فإن هذا الثمن سيكون أقل بكثير من ثمن الخيارات الأخرى التي سيواجهها، وكما رفض الخميني في عام 1986 مقترح إنهاء الحرب العراقية-الإيرانية ووقف نزيف الدم، عاد إلى نفس المقترح بعد دفع أثمان عالية للقبول به و“تَجرُّع كأس السم” وفقًا لتعبيره، فهل تَعلَّم خامنئي من تجربة سلفه ومعلمه؟ وهل إيران الثورة بحاجة إلى تَجرُّع كأس السم مجدَّدًا؟ ربما.
نُشر في المعهد الدولي للدراسات والبحوث الإيرانية