كريم عبدالله
حينما تنغلق الذات الشاعرة على نفسها ستضحى مشاعرها متأججة تحمل همّها لوحدها وتنغمس في عالمها البعيد وتمنحها مديات واسعة من التأمل والإنصات لعوالمها العميقة، فالقصيدة هي الملاذ الآمن الذي تلجأ إليه لتعبّر عمّا يعتريها ويجول في أعماقها المتأججة، وتبقى هذه الذات هي البطل الوحيد الذي يتحرك داخل النسيج الشعري ومعربة عن وحدتها وغربتها في هذا العالم، نتيجة هذا الواقع الملغم بالخيبة والخسارات والكبوات والانكسار.
وتبقى في صراعها الذاتي ومخاطبة نفسها عن طريق لغة خاصة بها مفرداتها تعبّر أيما تعبير عن شخصيتها ومحنتها. ونجد بوضوح جسدنة هذه الذات من خلالها إصرارها على سرد لوعتها، ويرتفع صوتها عاليا مشحونا بكمّ هائل من المشاعر الرقيقة التي تتناوب ما بين النرجسية الفرطة والعذاب المبرح وما بين الخيبات المتلاحقة والأحلام العذبة. وتبقى الذات الشاعرة تصارع في محاولة منها للخروج من شرنقة هذا الواقع المؤلم والانتصار .
واليوم نحن أمام نصّ الشاعرة زهرة النرجس ربيعة أزاد "حين أشتاق". فمن خلال عتبة العنوان نتلمس بوضوح ملامح هذه الذات المتعطشة والمبتلية بزمهرير مواجعها وتشظّيها ووحدتها.
فالذات الشاعرة اختارت طريقة الكتابة الأفقية/السردية التعبيرية/ذات الكتلة الواحدة كي تستطيع أخذ مساحة واسعة في التعبير والكشف عن مكنوناتها وتعبّر بحرّية، وتتخذ من اللغة فضاء للكشف والإيحاء تتسرب من خلالها المشاعر العميقة والمرهفة وتعظّم طاقاتها بتراكيب تنزاح فيها هذه اللغة بطريقة مذهلة وغريبة ومستفزّة وتتجلّى من خلالها جمالية صوت المرأة وتبثّ فيها طاقة تجعل المتلقي يعيش داخل النصّ ويتفاعل معه.
فلو حاولنا تسليط الضوء والإضاءة لوحدات هذا النصّ سنجد صوت المرأة التي تحاول التصريح عن كينونتها المضطهدة ، فمثلا ... "حين أشتاق إليك، أصير كزهرة دثرها الندى في صبيحات ربيع يزهو بأردية كل الفصول.
أحتضن الشروق احتضانا يغرقني في بحر حنين والرعشة الغامرة التي تسكن لحظاتي كظل الآثار القديمة المتمردة على سطوة العصور، فلا أذكر شيئا من هذا البعد اللعين الذي عبث بألوان فستان لبسته لألقاك أضحى قوامي فيه كركام عجوز تحاول النهوض من بركة وجع لترقد فوق حجر أخضر".
نجد الذات الشاعرة كيف استطاعت البوح والكشف عن مكنوناتها عبر هذا البناء الجملي الطويل والجميل، وكيف استخدمت الانزياحات اللغوية بطريقة عجيبة، وكيف تجلّت اللغة القادمة مما وراء الحلم معبّرة أصدق تعبير عن كينونتها، وكيف طوّعت خيالها الخصب في رسم كل هذه الصور المدهشة؟
ونختار مقطعا آخر من هذه القطعة الجميلة: "خفقان عنيف يجردني من ذاكرتي بلا ذاكرة أنا كي أعرف طريقي لمائدة النهر، كي أفسح الطريق لجداول عشق علا لغوها في دواخلي، أشعر كأني سجنت مذ غابر السنين في زنزانة الاشتياق، رحماك أطفئ لظى هذا الشوق لأسبق الغيوم هطولا ينفخ الحياة في السرر المتجمدة، هطلة توقظ فواكه القلب، تفتح نوافذ الرغبة التي أغلقتها طلقات الرصاص".
إن الذات الشاعرة هنا تعي محنتها جيدا لذا استخدمت مفردات خاصة شديدة البوح والتأثير، (خفق عنيف / يجرّدني / مائدة النهر / جداول العشق / دواخلي / أشعر / سجنت / زنزانة الاشتياق / رحماك / اطفىء / لظى / الشوق / هطولا / ينفخ / السرر المتجمدة / هطلة / توقظ / فواكه القلب / تفتح / الرغبة / اغلقتها). نجد هنا كل مفردة لها بُعدها الدلالي والتأويلي داخل النصّ، وكأن الشاعرة اختارتها بعناية فائقة لتعبّر بهذا البوح الشديد.
وفي هذا المقطع نجد جمالية اللغة الحالمة والمتيقظة دوما والمشرئبة تبحث عن النور والخلاص من ظلام يكتنفها، نجد هنا لغة الأمل المتجدد، نجد الإصرار على تحقيق هذا الحلم ولو بعد حين:
"أحاول أن ألوح لك بمنديل أبيض من خلف أسوار الشوق لأقصى نجمة زرعت النور في صحاري العمر، أرسل لك قبلات وراء سر البحار وعلى أجنحة الهزار أكتب قصيدة بشفتين ورديتين ترتشفان نخب الدنو من جنة الخلد، في كل الليالي أحمل ساقية ماء وأسافر مقتحمة شهيتي لأحتضن أقمارك، أعانق ذراع البحر ترهبني أمواجه بين مد وجزر، وأنا في دائرة الشمس أحاول جاهدة مقاومة عتمات ليل أسود حجبت الطريق نحو النور، وكل هذا الذي بي اشتياق يركض حول المسافات الممتد لأقصى المستحيل، وكل هذا الذي أملكه حقول نرجس لم تتفتح بعد، وهذا الحلم النائم الذي ينتفض طفوليا يعلو كشجرة كورو في جبالي الأطلسية تسمو شموخا لمعانقة السماء تطوقها قناديل الحنين".
إنها تحاول وتصرّ في محاولاتها بأقصى ما يمنها من البوح العميق وتسافر بعيدا في أحلامها العذبة ما بين مدّ وجزر:
"ألف قصيدة أكتبها لك بدموع القلب الذي لم يتربع فوق عرشه سواك، وألف سؤال يساورني كيف نلتقي؟ كيف نكسر هذا الصمت الذي انتصب شامخا يتلذذ حين تهيج أمواج الشوق وأصبح مائدة لطيور الحب؟ متى ... متى ياعبق روحي ألقاك؟".
إنّ القلوب النقيّة حتما سيدخلها الحبّ والسلام، كونها رقيقة وشفّافة وناعمة يتغلغل في حناياها، لذا نحن نجد هذا التآلف والتجانس في قصيدة الشاعرة كونها منبعثة من قلبها المفعم بالحيوية والمحبة، لقد كانت الشاعرة على قدر التحدي في كتابة القصيدة السردية التعبيرية، فكانت تمتلك مقدرة على هكذا كتابة تلبّي حاجتها في إنتاج هذا الكمّ الهائل من الصور الشعرية المتماسكة والمتتالية التوليد وفي ابتكاراتها اللغوية الجميلة.
ونحن متأكدون بإنّ الذائقة الابداعية لدى المتلقي ستكتشف الكثير من جماليات صوة المرأة / الشاعرة / في هذا القطعة المتوهّجة .