في إحدى سيارات الأجرة أو المصادفات الاجتماعية، يمكن أن يعرف غريب ما بطريقة أو بأخرى أنك تكتب الشعر، ليأتي السؤال الأشهر لدى البعيدين عن هذا الجانب: من أين يأتي لك الشعر؟
لمدة طويلة من الزمن تكرر صدى هذا السؤال في رأسي، وكنت أحاول الإجابة عنه دون جدوى، حتى صنعت لنفسي افتراضًا مبنيًا على توضيح قُدم لي مرة لتقريب صورة ما، وكان هذا الافتراض أن الشعر شبح ذو عباءة طويلة، وجوده محسوس دون أن يرى. لكني لم أذهب إلى تصديق افتراضي، إذ اقتصر الأمر فقط على طوي السؤال بعيدًا عن منطقة التساؤل، بانتظار إجابة أقرب للحقيقة من الافتراض الفانتازي هذا.
في بيتي بمنطقة أبو غريب، يمكن سماع الآذان من 4 مساجد متفاوتة بالبعد، يمكن وصف اثنين منهما بالقريب جدًا والثالث بالقريب، والأخير بالبعيد. أحد القريبين فيه مؤذن لا يرفع الآذان يوميًا، هو نفسه الشيخ الذي يؤم المصلين ويترك لاقطة الصوت مشتغلة أثناء الصلاة، فيمكن سماع تلاوته وتكبيراته وتخمين كِبَر سنه.
أن تصدق شيئًا فهو أمر ذو جلل، فنسبية الحياة لا تتيح الدقة للألسن، ولا حتى لما يُرى ويُسمع، اليقين التام مرحلة ربما لا يصلها الإنسان طوال حياته وإن اعتقد الإنسان أنه وصلها، وهذا اليقين لا يرتبط بالحقيقة بأي جانب، بل يرتبط بالإيمان غير المكترث بأصل الحقيقة، الإيمان القائم على ما يريد المرء تصديقه، وإن كان غيبيًا، وليس الإيمان كلمة سهلة، يسمعها السامع فيتذكر جدته التي تصلي كل فرض خلال تسعينيات عمرها، أو جده المقعد الذي يصر كل عام على الذهاب مشيًا إلى كربلاء، الأمر أبعد من ذلك بكثير، أبعد من العطاء المكنون في كلمة الإيمان، وأقرب إلى الأخذ في معنى الكلمة.
الشيخ المؤذن ذو الصوت الأجش، لا يفعل بحنجرته والأنغام التي يعرفها ويجيدها حركة لحنية تثير العاطفة، ومن المؤكد أن وصف الصوت الجميل بعيد ومبالغ لوصف صوته، لكن رغم ذلك ثمة ما هو غريب بهذا الرجل، بالطريقة التي يلفظ بها الكلمات، ويتلو سورة الفاتحة، ثمة ما يشبه العزلة والوحدة في صوته، إذ أن افتراض كونه يؤذن ويقرأ وحيدًا ويتجاوز حضور المصلين حوله شعوريًا أقرب للاستنتاج التحليلي من الافتراض.
ذات يوم في عام 2012 أو 2013، كنت أقف في سطح منزلي وكانت تمر بي لحظة اكتئاب نقية وقاتمة، تلك اللحظة التي يفقد فيها الإنسان صلته بكل ما حوله، ويبحث عن أي شيء يتشبث به قبل أن تلتقفه الهاوية، يومها حدثت الله بصدق لم يحدث معي قبل ذلك ولا بعده، وربما لن يحدث مجددًا، إذ لا حوار أصدق من الذي يدور بين الإنسان ونفسه، أو بينه وبين الله، كان حديثي هلوسة ليست ذات معنى، لكن المعنى كان يكمن في القناعة التامة التي اعترتني، الانسلاخ التام عن كل ما حولي، والاندماج التام بالحوار الذي أخوضه مع الخالق.
يملك الشيخ المؤذن نبرة حزن منفصلة عن لحن التلاوة، فهي مرتبطة بنطقه للحروف والمدات التي يقوم بها وفق ما تملي عليه أحكام التلاوة، لكن الإملاء معه يأتي مغايرًا، فيصبح مد الحروف ذو طابع توسلي، ومناجاة تمنح اللغة الهائلة للقرآن بعدًا آخر، شعريًا ربما، يمنحها انكسار الشاعر والعاشق، ويثريها بالتصديق الذي ذكرته، بالإيمان الذي يتجاوز الدين والدنيا والآخرة، ويصل الروح، الروح الخالصة المستقلة عن الزمان والمكان، والمنتمية إلى اللحظة الآنية للقراءة، اللحظة التي يكتب فيها الشاعر قصيدته، ويؤلف فيها الموسيقي لحنه، ويرسم فيها الرسام لوحته.
كان الشيخ المؤذن، قد غاب لمدة تجاوزت الأسبوع، وكنت قلقًا حوله خوفًا من أن يكون قد أصابه مكروه ما، حتى سمعته اليوم مجددًا، وعلمت من زوجتي، أن الفترة التي اعتقدت فيها أن الشيخ المؤذن غاب فيها، كان يرفع فيها الآذان يوميًا في صلاة الفجر، ويقرأ القرآن عبر لاقطة الصوت في الصلاة، في الوقت الذي لا يكون عدد السامعين له كبيرًا، وهذه الدلالة جعلتني أبتسم، إذ يرغب الشاعر عادة بنشر قصائده غاية أن تخرج من صدره إلى الآخر، دون الاهتمام الفعلي بالآخر إن كان سيقرأها فعلاً، أم لا.
هل مس الشعر الشيخ المؤذن، ربما، لكن المؤكد أن بينه وبين جوهر الشعر مسافة أقرب بكثير من تلك التي بين الشعر والكثير من الشعراء.