لا شك في أن استقالة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على موقع التواصل الاجتماعي "أنستقرام" مساء يوم الإثنين 25 فبراير الماضي؛ وما تبعها من صخب هائل في إيران وخارجها، لم يكن ليحدث إلا لو أن هناك جمرا تحت الرماد في الدوائر العليا لصناعة السياسات في طهران، أدى إلى أن يتسبب ممثل السياسة الخارجية الإيراني في هذا الحرج البالغ للنظام.
بدأت قصة استقالة وزير الخارجية محمد جواد ظريف عند توليه الحقيبة الوزارية في أغسطس من عام 2013 وليس في فبراير 2019، ذلك أن النظام الإيراني في صورته الحالية يقوم على توزيع المهام المتعلقة بالسياسة الخارجية بين مؤسسة الحرس الثوري، بالإضافة إلى مكتب المرشد علي خامنئي، وبين وزارة الخارجية.
وقضت السياسات التي أقرها المرشد بموجب الصلاحيات المهولة المخولة له، وفقا للدستور، بألا يكون لوزارة الخارجية أي صلة بالملفات العربية بالكامل، وعلى رأسها -بطبيعة الحال- الوضع في سوريا والعراق ولبنان واليمن وفلسطين؛ لذلك كان المتابع للمشهد الإيراني يرى قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني في العراق وسوريا ولبنان بينما لا يرى أيا من دبلوماسيي وزارة الخارجية البتة في تلك الدول، وحتى عندما كان المرشد يريد توجيه رسائل دبلوماسية إلى أي من تلك الدول العربية، كان يرسل مبعوثه الخاص ومستشاره للشؤون الخارجية علي أكبر ولايتي، وهو وزير خارجية سابق وأحد رجال الطليعة في الثورة الإيرانية.
وفي أحيان أخرى كان المرشد يخول تلك المهام إلى أمير حسين عبداللهيان، الذي كان مساعدا لوزير الخارجية الإيرانية للشؤون العربية، ولأسباب تتعلق بالاختلاف مع ظريف تم نقله ليكون نائبا لرئيس مجلس الشورى (البرلمان) علي لاريجاني أو علاء الدين بروجردي، رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى، وهو مقرب للغاية من مؤسستي المرشد والحرس الثوري، وكان دائم التردد على الدول العربية في السنوات الأخيرة.
ولقد كان جواد ظريف يتلقى نقدا واسع النطاق في الأوساط الأوروبية لعدم تمكنه من النفاذ إلى الملفات العربية الكبرى، على اعتبار أنه لا يمكن ألا يكون لوزير خارجية يتحدث عن عدالة قضيته، دور في الدول الملاصقة لحدود بلاده الجغرافية والسياسية. ومن هنا بدأت المشكلة، ونشب الخلاف.
المشهد الأخير
برعت إيران في السنوات الأخيرة في صناعة السينما، وحصلت أفلام إيرانية على أعلى الجوائز الفنية في العالم ومنها الأوسكار، ولئن كان الدرس الذي تعلمناه من تلك السينما ألا نحكم على الفيلم من مشهده الختامي "الفينال" بل من سياقه الدرامي بالكامل حتى نتتبع تطور الأحداث وتراكم الدراما، فإن هذا هو بالضبط ما ينطبق على حالة استقالة محمد جواد ظريف.
فمن الخطأ أن يتم تحليل تلك الاستقالة في ضوء عدم دعوة جواد ظريف إلى القمة الإيرانية - السورية تلك التي جرت بين الرئيسين حسن روحاني وبشار الأسد في طهران صباح يوم الإثنين، بل يمكن القول إن هذا المشهد هو القشة التي قصمت ظهر البعير، وجعلت ظريف المتردد في التنحي عن منصبه الوزاري والذي تقدم في مرات سابقة كثيرة بالاستقالة، يحسم أمره ويتخذ القرار عبر منصات التواصل الاجتماعي.
صحيح أن ظريف أرسل إلى مراسل جريدة "انتخاب" الإصلاحية تصريحا عبر رسالة نصية في هاتفه المحمول قال فيها بالحرف الواحد "إنه بعد نشر صور المقابلة بين المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي والرئيس السوري بشار الأسد في طهران دون حضوره لم يعد هناك أدنى احترام لوجوده في منصب وزير الخارجية".
مكمن المشكلة في مقابلة بشار الأسد مع علي خامنئي وحسن روحاني ليس فقط في عدم دعوة ظريف ولا إعلامه بالأمر؛ بل في حضور قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني في المشهدين، وجلوسه في المقعد المخصص بروتوكوليا للدبلوماسية، وهو ما يعني تهميش الخارجية الإيرانية كليا في الملفات العربية الحيوية وإحلال الحرس الثوري محلها، وتأكيد ذلك أمام العالم بالكامل، وتحول الأمر الذي كان في إطاره التحليلي إلى إطار اليقين السياسي، حين تغيب الدبلوماسية ويحضر الأمن.
وفي الأشهر الماضية، حاول محمد جواد ظريف استخدام كل نفوذه وعلاقاته بمؤسسة المرشد ومكتب الرئيس وضغط بشدة لإحداث اختراق في نظرية تقسيم السياسة الخارجية لإيران بين الخارجية والحرس الثوري، وبالفعل قام بعدة زيارات إلى تلك الدول الواقعة في دائرة نفوذ الحرس الثوري وصلاحياته.
ففي فبراير الماضي زار لبنان، كما زار العراق في يناير الماضي، وفي سبتمبر من العام الماضي قام بزيارة إلى العاصمة السورية دمشق، ليس لشيء إلا لنزع المصداقية عن التحليلات القائلة بعدم وجود صلاحيات للخارجية الإيرانية في تلك الملفات التي توجد فيها إيران مليشياويا وعسكريا واستخباراتيا.
الواقع أن خطوات ظريف لاختراق تلك الملفات أغضبت مؤسسة الحرس الثوري، تلك التي رأت أن فيها تجاوزا على دورها السيادي في العمل بدول منخرطة فيها بالفعل بالمليشيات والقوات العسكرية؛ ولذلك كان يتم الإيعاز إلى النواب المقربين من الحرس الثوري في البرلمان بمهاجمة الرجل بعد عودته من تلك الدول، لكن في إطار ملفات أخرى منها فشل الاتفاق النووي وعدم جدية الدول الأوروبية في مسألة العقوبات الأمريكية وغيرهما.
من الرئيس إلى الرئيس المحتمل
مثّلت استقالة جواد ظريف مأزقا سياسيا للرئيس حسن روحاني فقد رأى أنه خاسر في كل الحالات سواء قبِل الاستقالة أو رفضها، وقد ظهر أمام العالم كله أنه رئيس بلا صلاحيات ولا يملك من أمر سياسة بلاده الخارجية شيئا، وهو يعرف تمام المعرفة أن ظريف هو الرابح في كل الحالات، خاصة مع تواتر أنباء حول نية الأخير الترشح على مقعد الرئاسة في الاستحقاق المقبل عام 2021.
لذلك رأى روحاني أن أخف الأضرار ألا يقبل تلك الاستقالة، ونشرت الصحف الإيرانية نص الرسالة التي بعثها إلى ظريف، تلك التي قال فيها:"لا أوافق على استقالتكم وأعتبر أن القبول بها يتعارض مع مصالح إيران، فإن فرح الكيان الصهيوني وباقي أعداء إيران اللدودين باستقالتكم خير دليل على نجاحكم في مهمتكم وأكبر سبب لاستمرار نشاطكم كوزير للخارجية الإيرانية، ولقد وصفكم سماحة القائد بالرجل الأمين والغيور والشجاع والمتدين الذي يقف في الخط الأمامي أمام الضغوط الأمريكية الشاملة، أنا على اطلاع بالضغوط التي تمارس ضد الجهاز الدبلوماسي في البلد لكننا سنبقى أوفياء لعهدنا وسنجتاز هذه المرحلة الصعبة بفضل الله".
والحقيقة أن ظريف خرج رابحا في كل الحالات، فقد حفظ ماء وجهه أمام نظرائه الأوروبيين وأمام العالم، وأظهر النظام الإيراني في صورة لا تحترم دولاب العمل السياسي، كما ظهر أمام الرأي العام الداخلي أنه الرجل الغيور على سلامة وزارته واستدامة صلاحياتها في كل الملفات.
مجمل القول إن مسألة تهميش ظريف في زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران لم تكن السبب الحقيقي للاستقالة، بل هي الحلقة الأخيرة في سلسلة متوالية من التراكمات والتجاذبات والصراعات الداخلية بين كتلتين؛ إحداهما تتمثل في مؤسسة المرشد علي خامنئي بكل ما تملك من صلاحيات ومعها مؤسسة الحرس الثوري، والأخرى مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية اللتين لا حول لهما ولا قوة في ظل نظام ولاية الفقيه.