هدى رؤوف
تحاول إيران وإسرائيل تعزيز موقفهما الاستراتيجي تجاه الأخرى، إسرائيل من خلال مهاجمة أهداف مرتبطة بإيران في سوريا وإقامة صداقة مع دول الإقليم، وإيران من خلال دعم الميليشيات المسلحة والتنظيمات دون الدولة والسعي لبرنامج أسلحة نووية. وبينما يبدو أن الدولتين غير مهتمتين بالمواجهة العسكرية، لا يمكن استبعاد الحسابات الخاطئة تماماً.
وأدت سلسلة من التطورات إلى تأجيج التوترات بين الدولتين، توسع إيران غير المسبوق في المنطقة بشكل عام وترسيخها العسكري في سوريا على وجه الخصوص والشكوك والمخاوف التي تحيط ببرنامج إيران للأسلحة النووية ووصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وخطابه المناهض لإيران وسياسته الخارجية التي رحبت بها وشجعتها الحكومة الإسرائيلية، ثم اتفاقات السلام لعام 2020 بين إسرائيل والإمارات والبحرين والسودان والمغرب.
مع ذلك، فإن تاريخ العلاقات بين تل أبيب وطهران لم يكن يتبع دائماً المسار العدائي: كان هناك وقت انخرطت فيه الدولتان في تعاون سياسي واقتصادي وأمني متعدد الأوجه، من بين مجالات أخرى. مع ذلك، فإن هذا التعاون الذي سعى إلى تعزيز المصالح الإسرائيلية - الإيرانية في مواجهة عالم عربي عنيد، انتهى بضربة واحدة عام 1979 بعد إطاحة الشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية مع خطابها الصريح عن تدمير إسرائيل.
تستعرض هذه المقالة تاريخ العلاقات الإسرائيلية - الإيرانية وتحلل وضعها الحالي وتحاول تقييم التقدم المحتمل في المستقبل القريب.
من التعاون إلى العداء
منذ تأسيس دولة إسرائيل في مايو (أيار) 1948، حتى وصول آية الله روح الله الخميني إلى طهران من منفاه الفرنسي في فبراير (شباط) 1979، اتسمت العلاقات بين إسرائيل وإيران بتعاون متعدد الأوجه بما يخدم مصالحهما الوطنية. وزادت الاعتبارات الجيوسياسية التي جمعت بين الطرفين بسبب حاجة تل أبيب إلى مصادر الطاقة من جهة، ورغبة طهران في توسيع صادراتها النفطية من جهة أخرى. وبسبب حرمان إسرائيل من الموارد النفطية وتعرضها لمقاطعة اقتصادية عربية شاملة، كان عليها أن تجد مصادر طاقة بديلة تلبي حاجات سكانها الذين يتزايد عددهم بسرعة بحيث أصبحت إيران غير العربية الخيار الأفضل لها كمورد للنفط.
تأسست العلاقات في هذا المجال في الخمسينيات من القرن الماضي ووصلت إلى ذروتها في أعقاب حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران) 1967، عندما أقنعت تل أبيب طهران بالاشتراك معاً في إنشاء خط أنابيب إيلات - عسقلان يربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط الذي لم يسهل على إيران إرسال صادرات النفط إلى إسرائيل فحسب، إنما أتاح لها الوصول إلى أسواق النفط الأوروبية. ونتيجة لذلك، نمت مبيعات النفط الإيرانية إلى كل من إسرائيل وأوروبا بشكل كبير وارتفعت عائدات البلاد. وسمحت طهران باستخدام أراضيها ممراً آمناً إلى إسرائيل للجالية اليهودية القديمة التي طردت من العراق في ذلك الوقت. وفي الستينيات وأوائل السبعينيات، مكنت طهران إسرائيل من استخدام أراضيها لتقديم دعم عسكري للتمرد الكوردي في شمال العراق.
انتهى هذا التعاون متعدد الأوجه بشكل مفاجئ مع الثورة الإيرانية عام 1979 وتشكيل الجمهورية الإسلامية بقيادة الخميني. ومع تغيير النظام في إيران، أصبحت معاداة الصهيونية جزءًا لا يتجزأ من الأيديولوجيا السياسية لطهران.
واستخدم الخميني علاقات الشاه مع إسرائيل والولايات المتحدة كورقة رابحة لتشويه سمعة الشاه وتقويض شرعيته واتهمه بالسماح لإسرائيل بالتغلغل في الشؤون الاقتصادية والعسكرية والسياسية لإيران. وفي غضون أسابيع من الثورة الإيرانية، قطعت طهران جميع الروابط الرسمية مع تل أبيب، لتبدأ حقبة جديدة تتميز بالعداء الشديد لإسرائيل والدعوات المفتوحة لتدميرها التي استمرت حتى يومنا هذا.
وفي الأعوام الماضية، جدد النظام الإيراني مسعاه الإقليمي المهيمن من خلال الأنشطة التخريبية والتدخل في الدول العربية ودعم التنظيمات المسلحة في جميع أنحاء المنطقة، لا سيما حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين.
وبينما بدا النظام الإيراني غير مهتم في البداية بالحفاظ على البرنامج النووي الذي أنشأه الشاه في الخمسينيات من القرن الماضي بدعم من الولايات المتحدة (من خلال اتفاق التعاون النووي المعروف باسم برنامج الذرة من أجل السلام)، أدت الحرب مع العراق إلى تغيير جذري في هذه القضية. وبحلول منتصف الثمانينيات، استأنفت طهران جهودها النووية. ومع انكشاف مدى برنامج الأسلحة النووية الإيراني على نحو متزايد، بدأت أجراس الإنذار تدق في جميع أنحاء العالم، ثم جاء فرض مزيد من العقوبات الدولية على إيران إلى أن تم توقيع "خطة العمل الشاملة المشتركة" عام 2015 التي رفضتها إسرائيل بشدة ولم تنجح في ثني إدارة باراك أوباما عن إتمامها، ثم جاء دونالد ترامب الذي أعلن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الأميركية مع تطبيق سياسة الضغط الأقصى.
المعركة بين الحروب
على الرغم من أن برنامج إيران النووي يمثل التهديد الأول لإسرائيل، إلا أن برنامج الأسلحة النووية لطهران لم يكن بأي حال من الأحوال المصدر الوحيد للمواجهة بين الدولتين، إذ سمحت الحرب في سوريا والعراق للنظام الإسلامي بتنشيط دافعه الإمبريالي الساعي للهيمنة بقوة. لم تستخدم طهران دعمها لنظامي الأسد والمالكي في دمشق وبغداد فحسب كنقطة انطلاق لزيادة النفوذ السياسي والترسيخ العسكري في البلدين من خلال كل من الحرس الثوري والميليشيات الشيعية التي تعمل بالوكالة (لا سيما "حزب الله" و"الحشد الشعبي العراقي")، إنما استخدمت الأراضي السورية والعراقية واللبنانية لإنشاء ممر بري إلى البحر الأبيض المتوسط، في محاولة لفرض الهيمنة الإيرانية في سوريا والعراق ولبنان.
وكان ينظر إلى هذا التطور بقلق بالغ في إسرائيل. ولم يقتصر الأمر على تنامي التهديد الذي يمثله وكلاء إيران في لبنان وقطاع غزة بشكل كبير خلال العقد الماضي، مع امتلاك "حزب الله" و"حماس" أكثر من 200 ألف صاروخ، بل فتحت طهران جبهة مباشرة جديدة على طول الحدود السورية الإسرائيلية تتألف من الحرس الثوري والميليشيات الشيعية بالوكالة. وكان هذا غير مقبول لتل أبيب التي شنت حملة مستمرة لمنع ترسيخ طهران عسكرياً في سوريا واستخدامها الأراضي السورية لنقل أنظمة أسلحة متطورة إلى "حزب الله"، وأطلق عليها اسم المعركة بين الحروب (CBW). هذا الجهد الذي استمر لأعوام، استدعى من إسرائيل شن غارات جوية غير معلنة في الغالب ضد أهداف إيرانية وأهداف مرتبطة بها في سوريا والعراق ولبنان. وإلى جانب جهود تأخير برنامج إيران النووي، كثفت إسرائيل حملتها الجوية ضد التمركز العسكري الإيراني في سوريا.
إن العلاقات بين إيران وإسرائيل ومحاولة كل منهما تعزيز موقفها الاستراتيجي في مواجهة الأخرى خلق نوعاً من توازن الرعب غير المستقر، إذ يتم ردع إيران بسبب قدرات إسرائيل الاستراتيجية من حيث قواتها الجوية الهائلة ونظام دفاعها الجوي متعدد الطبقات المضاد للصواريخ والغواصات المسلحة نووياً، في حين أن إسرائيل تدرك بشكل مؤلم أن كلفة بشرية ومادية ضخمة تكلفتها مجموعة صواريخ طهران، خصوصاً من ترسانة "حزب الله" التي تقدر بـ 150000 صاروخ. وبينما حال توازن الرعب هذا، حتى الآن، دون اندلاع حريق مباشر شامل بين الدولتين، لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال كلياً إذا ما فشل التوصل إلى إحياء الاتفاق النووي الذي تجري مباحثاته بين إيران وإدارة جو بايدن. وحتى إتمام الاتفاق، لا يستبعد التصعيد بينهما، لا سيما في ظل تنامي تهديد الطائرات المسيّرة ووصولها إلى يد ميليشيات تابعة لإيران، مما يعني استمرار حرب الظل بين الطرفين، حتى في حال إحياء الاتفاق الذي تعتبره إسرائيل غير مجد وغير كاف لردع إيران.