غرد الملياردير الأميركي إيلون ماسك في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2017، معرباً عن حبه لموقع التدوينات القصيرة "تويتر"، ليرد أحد المتابعين مقترحاً عليه شراء الشبكة الاجتماعية، ويبدو أن المدير التنفيذي لشركتَي "تيسلا" و"سبيس إكس" كانت لديه الرغبة بالفعل وسأله عن الثمن. اعتبر المتابعون هذه المحادثة مجرد مزاح بين الرجلين، لكن بعد أقل من خمس سنوات حصل ماسك على ما كان يريده بالفعل منهياً صفقة بقيمة 44 مليار دولار الشهر الماضي لشراء "تويتر".
نظر كثيرون إلى العملية على اعتبار أنها صفقة اعتيادية في عالم أعمال شركات التكنولوجيا، إذ سبق أن استحوذت شركة "فيسبوك" على تطبيق "واتساب"، مقابل 16 مليار دولار، لكن يبدو أن هناك شيئاً كبيراً أو بحسب التعبير الأميركي "فيلاً داخل الغرفة" في صفقة "تويتر". ففي بيان إعلانه عن الصفقة قال ماسك، المعروف بتدويناته المازحة والتي تنتقد اليسار المتشدد أو ما يُعرف بـ"اليسار التقدمي"، إن "حرية التعبير هي حجر الأساس لديمقراطية فاعلة، وتويتر هو ساحة المدينة الرقمية حيث تتم مناقشة الأمور الحيوية لمستقبل البشرية"، مضيفاً أن "لدى تويتر إمكانات هائلة. أتطلع إلى العمل مع الشركة ومجتمع المستخدمين".
ويبدو أن حديث أغنى رجل في العالم، الذي يقدم نفسه كليبرالي، حول حرية التعبير، أثار قلق شريحة تمتلك ما يكفي من القوة والسيطرة على وسائل الإعلام الرئيسة في الولايات المتحدة والجماعات المناصرة لفرض أجندة أو آراء محددة وحتى القدرة على إسكات الآراء المخالفة عبر ما يُعرف بـ"ثقافة الإلغاء".
فلم يمض أسبوعان على إتمام الصفقة حتى بدأت مجموعات ناشطة ووسائل الإعلام الرئيسية، شن هجوم لاذع على ماسك، وسط مخاوف من تغيير سياسات "تويتر" والسماح برفع الحظر عن حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وعدد واسع من الحسابات المحافظة التي أغلقتها الإدارة السابقة للشركة بزعم ترويج معلومات مضلِّلة أو معاداة المثليين وغيرها من الأطروحات المحافظة التي تتناقض مع تيار "اليسار التقدمي".
في غضون ذلك، أثار ماسك مزيداً من الدراما من خلال نشر رسم يوضح ما يُعتقد أنه الطيف السياسي بين أولئك الذين يميلون بين اليسار (التقدمي/ الليبرالي) واليمين (المحافظ)، ويقارن الرسم البياني كيف يشعر ماسك بأن آراءه السياسية قد تغيّر تصنيفها خلال الأعوام 2008 و2012 و2021، مع اتجاه السياسات اليسارية نحو مزيد من التشدد. ووفقاً لصورة المخطط الذي نشره، كان ماسك يعتبر نفسه شخصاً "ذا ميول يسارية" في عام 2008، ثم أصبحت آراؤه تُصنَّف ضمن تيار الوسط بشكل تدريجي، وباتت لاحقاً في خانة اليمين في عام 2021.
وفي تغريدة متابعة، أوضح ماسك أنه في حين "دعم بقوة" الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، إلا أن ولاءه للحزب الديمقراطي قد تذبذب. وكتب "لقد دعمت أوباما بقوة لمنصب الرئيس، لكن الحزب الديمقراطي اليوم تعرض للاختطاف من قبل المتطرفين (التقدميين)". وفسرت وسائل إعلام أميركية إشارة ماسك للمتطرفين بأنهم على الأرجح الأعضاء الأكثر تشدداً في الحزب الديمقراطي مثل ألكساندرا أوكاسيو كورتيز وأيانا بريسلي والسيناتور بيرني ساندرز ممَن يدعمون سياسات مفتوحة في ما يتعلق بالجنس والهوية الجنسية وفتح الحدود.
ومع اشتعال المعركة بين ماسك والتيار اليساري، تحولت مؤسسات وجمعيات معروفة بالعداء لترامب والحزب الجمهوري، ودعم أيديولوجيا اليسار الراديكالي داخل الحزب الديمقراطي، لشن حملة تهدف لتجريد "تويتر" من مصادر التمويل، عبر الضغط على الشركات المعلِنة بمقاطعة الموقع. فوقّعت الأسبوع الماضي، 26 منظمة غير حكومية وجماعة ضغط على رسالة تعرب عن القلق بشأن استحواذ مؤسس "تيسلا" على "تويتر" ودعت المعلنين على المنصة، بما في ذلك "كوكاكولا" و"ديزني"، إلى مقاطعتها إذا أصر ماسك على عدم الرضوخ لتلك المنظمات بشأن فرض رقابة على التعبير عبر منصته.
واتهمت المنظمات في خطابها، ماسك بأنه سيعمل على تعريض المجتمعات المهمشة للخطر وتوفير منصة "للمتطرفين (اليمينيين)" "تحت ستار حرية التعبير". وقالت الرسالة إن "سيطرة ماسك على تويتر ستزيد من سُميّة نظام المعلومات لدينا وتشكل تهديداً مباشراً للسلامة العامة"، مشددةً على أن "تويتر يجب أن يستمر في دعم الممارسات التي تعمل كعلامات إرشادية لمنصات التكنولوجيا الكبرى، بيغ تك" (big tech). ودعت المنظمات الـ26 المعلنين إلى الالتزام بهذه المعايير باعتبارها متطلبات غير قابلة للتفاوض للإعلان على المنصة.
ووضعت المنظمات ثلاثة شروط للمعلنين حتى يواصلوا أعمالهم مع "تويتر" وهي: البقاء على غلق حسابات السياسيين والشخصيات العامة التي جرى تعليقها بسبب انتهاك القواعد (من بينها حساب ترامب)، والرقابة الخوارزمية التي تهدف لحماية المجتمعات التي تعاني التمييز، مع مواصلة التزام "تويتر" بالشفافية وإتاحة المعلومات للباحثين.
ورد ماسك على الرسالة، التي نشرتها شبكة "سي أن أن" متسائلاً عن هوية مَن قام بتمويلها، وغرد قائلاً "من يمّول هذه المنظمات التي تريد التحكم في وصولكم إلى المعلومات؟ دعونا نتحرى..."، مشيراً بأصابع الاتهام إلى ما وصفه بـ "مجموعات الأموال المظلمة" مثل "مؤسسة المجتمع المفتوح" التابعة لرجل الأعمال المجري جورج سوروس والمنظمات غير الحكومية التي أسسها موظفون سابقون في إدارة بيل كلينتون وأوباما، إضافة إلى متبرعين ديمقراطيين أثرياء ومؤسسات ونقابات عمالية وحكومات دول أوروبية.
وفي مقال بعنوان "مَن يمول حملة التشهير والضغط على إيلون ماسك؟"، اعتبرت مجلة "تابلت" الأميركية، أن "خطاب المجموعة يعني تعبئة نشاطها وأي موارد أخرى لديها لمعاقبة الشركات التي ستواصل العمل مع تويتر من دون الشروط الموضحة في الخطاب". ووفقاً لأرمن روزين، كاتب المقال، فإن منظمات "ميديا ماتر فور أميركا" و"أكونتابل تك" و"ألترا فيولت"، الموقعين على الخطاب، يقودها كبار الموظفين الديمقراطيين السابقين في الكونغرس والسلطة التنفيذية والحملات السياسية الرئيسية، ويتلقى جميعهم تمويلاً من المؤسسات الليبرالية التي تتبرع على نطاق واسع للديمقراطيين، أو منظمات المناصرة مثل النقابات العمالية التي تشارك بعمق في سياسات الحزب الديمقراطي. وإجمالاً يصفهم الكاتب بأنهم "كيانات تابعة لجهاز الحزب الديمقراطي الأوسع والذراع الهجومية له".
ويضيف الكاتب أن "الرسالة ورعاتها الثلاثة الرئيسيين، يكشفون عما يشبه تكتيك الحملة السياسية، وقد تُظهر علاقة الحزب الديمقراطي بهذه الجماعات الغرض من مساعيهم المناهضة لماسك، إنها لتذكيره أنه عدو للحزب الذي يمتلك قدراً كبيراً من السلطة الرسمية، بما في ذلك الكونغرس والرئاسة، والفكرة الأساسية هنا تتعلق بتهديد مالك تويتر الجديد للامتثال طوعاً لأيديولوجية الحزب الذي بات يكتظ باليساريين الراديكاليين".
كشفت مجلة "نيوزويك" الأميركية الأسبوع الماضي، عن توجيه شركة "زينو غروب"، المختصة بالتسويق والعلاقات العامة، تحذيراً لعملائها ومن بينهم "ستاربكس" و"كوكاكولا" و"نتفليكس"، من الخوض في مسألة الإجهاض بعدما أثارت مسودة مسرّبة عن المحكمة العليا جدلاً واسعاً في المجتمع الأميركي. ونصحت الشركة عملاءها بالتزام الصمت بشأن المسودة التي تتعلق باحتمال إلغاء حق الإجهاض الذي يتنازع بشأنه الليبراليين والمحافظين.
وبحسب نشرة داخلية للشركة، جرى تحذير العملاء من أن "وسائل الإعلام" وغيرها "ستبحث عن الشركات لاتخاذ موقف والإعلان عن آرائها". وبحسب ما ورد في الرسالة الإلكترونية، "لا تتخذ موقفاً لا يمكنك التراجع عنه، بخاصة عندما يكون القرار غير نهائي. القضايا التي تقسم البلد تسبب في بعض الأحيان مواقف غير مربحة للشركات، لأنها بغض النظر عما ستتخذه، ستبعد ما لا يقل عن 15 إلى 30 في المئة من أصحاب المصلحة... لا تفترض أن جميع موظفيك أو عملائك أو مستثمريك يشاركونك الرأي". وحذرت "زينو" الشركات بشدة بشأن ضرورة تجنب "تصيّد" وسائل الإعلام، موجِّهة بعدم الرد على الاستفسارات المتعلقة بحقوق الإجهاض من قبل وسائل الإعلام.
والأسبوع الماضي، نشر موقع "بوليتيكو"، الأميركي، مسودة قرار مسرَّبة عن المحكمة العليا في الولايات المتحدة، التي يسيطر عليها المحافظون بغالبية ستة إلى ثلاثة، تصف قرار حق الإجهاض الذي يُعرف بـ"رو ضد وايد"، بأنه "خطأ فادح منذ البداية". وتوصي بإلغاء القرار الصادر عن المحكمة نفسها قبل نحو 50 سنة و"إعادة قضية الإجهاض إلى الممثلين المنتخبين للشعب"، مما تسبب بجدل واسع في الشارع الأميركي المنقسم بين تيار محافظ يرفض الإجهاض وتيار ليبرالي يؤيد الحق الذي يعود إلى عام 1973، والذي يكفل للمرأة الحق في أن تنهي طوعاً حملها ما دام جنينها غير قادر على البقاء على قيد الحياة خارج رحمها وذلك في فترة أقصاها 22 أسبوعاً من بدء الحمل.
وفي ما يتعلق بتحيز وسائل الإعلام والتي عادة ما تقوم بدور أساسي سواء في استدراج الشركات الكبرى لتبني سردية معينة أو في فرض تلك السردية وشيطنة المعارضين لها، كتب جيمس جيفري، في مجلة كوليت الأسترالية، متحدثاً عن مناخ الاستقطاب الذي يؤثر في تصورات العالم والمجتمع، فكثيراً ما يفرض السياسيون ووسائل الإعلام المتحيزة، نوعاً من الرقابة من خلال حذف الحقائق عمداً أو لَيْها خوفاً من تقويض الحقائق الأوسع نطاقاً أو ما يصفه هال كونتي الباحث لدى جامعة وورويك، في المملكة المتحدة بـ "الأكاذيب النبيلة".
ويشير جيفري في هذا الصدد إلى مقال لكونتي بعنوان "الصحافيون أصبحوا منفذي سرد"، ويشير فيه إلى أن تلك "الأكاذيب النبيلة" تنطلق من تصور ذاتي لدى العديد من الصحافيين بأنه يجب عليهم حماية الحقائق الأساسية للديمقراطية، التي يُفهم أنها لا تعني فقط المعايير الانتخابية، لكن أيضاً مجموعة واسعة من الالتزامات الأيديولوجية الليبرالية. وهكذا، "يترتب على ذلك أن الحقائق والقصص التي تتعارض مع هذه المجموعة من الالتزامات يعتبرها أولئك الصحافيون ترقى إلى التضليل المناهض للديمقراطية الذي قد يتم إسكاته بشكل مشروع. علاوةً على ذلك، فإن كل قصة قصيرة النظر تخلق سرداً مضاداً قصير النظر وغير متوازن بنفس القدر".
ويقول ألدوس هكسلي، في مقدمة كتاب "عالم جديد شجاع" الصادر عام 1958، إن "الأخلاقيين يعزفون على واجب السيطرة على المشاعر، لكن في الوقت نفسه، فشل أغلبهم في الالتزام بواجب لا يقل أهمية؛ فجرائم المثالية أكثر خطورة بكثير من جرائم العاطفة، تلك الجرائم التي يتم التحريض عليها وتغذيتها وإضفاء الصفة الأخلاقية عليها من خلال الكلمات المقدسة". ويضيف أن "السرديات حول العالم، عند التعامل معها كحقائق مطلقة وعقائد يجب ابتلاعها وأوثان يجب عبادتها، فإن الافتراضات حول العالم تشوّه رؤيتنا للواقع وتقودنا إلى كل أنواع السلوك غير اللائق".
ويأتي تحذير شركة "زينو" لعملائها بعد خسائر تكبدتها شركة "ديزني" نتيجة تورطها في جدل حول قضية مجتمعية أخرى بعدما انتقدت قانوناً سنته ولاية فلوريدا الأميركية يقضي بمنع الحديث عن المثلية الجنسية لتلاميذ المدارس في سن أقل من 9 سنوات، ما دفع الولاية إلى سحب وضع "الحكم الذاتي" الذي كان يسمح لديزني بالحصول على إعفاء ضريبي، وهو ما هوى بأسهم الشركة في أبريل (نيسان) الماضي.
وولاية فلوريدا هي واحدة من الولايات المحافظة ويقودها عضو الحزب الجمهوري رون دي سانتيس. ووسط خلاف مع الليبراليين، أصدر دي سانتيس قانوناً يمنع مناقشة التوجهات والهوية الجنسية مع الأطفال من مرحلة الحضانة وحتى السنة الدراسية الثالثة. وتحت ضغط العاملين لديها، ممَن ينتمون إلى اليسار الراديكالي وجماعات حقوق المثليين والمتحولين جنسياً، اضطرت شركة ديزني لإعلان رفضها للقانون ووقف التبرعات السياسية.
وزادت ديزني من إغضاب جمهورها من المحافظين، عندما أعلنت حظر استخدام "تحيات النوع الاجتماعي" داخل متنزهاتها، حيث لن يتم استخدام مصطلحات مثل "الأولاد والبنات" و"السيدات والسادة"، وهو ما دفع العديد من العائلات الأميركية لتجنب تعرض أبنائهم وأحفادهم لمنتجات ديزني، وفقاً لتعليقات نشرتها شبكة "فوكس نيوز" لبعض الآباء والأمهات ممَن أعربوا عن إحباط عميق تجاه السياسات الجديدة لديزني التي تسعى لإرضاء ما يوصف باليسار "المستيقظ" في إشارة لليسار المتشدد.
ترينت تالبوت كان واحداً من الآباء الذين تحدثوا لـ"فوكس نيوز"، وهو المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة "كتب شجاعة" في هيوستن بولاية تكساس، مشيراً إلى أن "ديزني استسلمت للغوغاء المستيقظين وتستخدم منصتها لتلقين أطفال أميركا ليصبحوا ناشطين مستيقظين في الغد". وأضاف "يحتاج الأطفال للترفيه الذي هو ملاذ من هذه الثقافة المجنونة، حيث يمكنهم الاستمتاع بقصص رائعة وشخصيات مرحة فقط. ويجب أن يكون لدى الآباء الثقة في أن أطفالهم يشاهدون ويسمعون قصصاً جيدة وحقيقية".
وعلى النقيض، حظيت شركة إيكسون موبيل على إشادة بعض وسائل الإعلام المحافظة عندما نأت بنفسها عن الصراعات السياسية والانقسام المجتمعي، إذ أعلنت الشركة أنها ستكتفي برفع راية المثليين خلال "شهر الفخر" (خاص بمجتمع المثليين) في يونيو (حزيران) المقبل، في المكاتب الداخلية وليس على مقرها من الخارج، إذ لا تسمح سياسات الشركة برفع رايات أخرى مع شعارها الرئيسي، وهو الأمر الذي أكدته أيضاً في ما يتعلق براية حركة "حياة السود تهم".
وكتبت صحيفة "بارك سيتي ديلي نيوز"، التي تصدر في ولاية كنتاكي الأميركية، "إنه لأمر لطيف أن ترى شركة تقف أخيراً في وجه الجماعات التي تتنمر وفي بعض الحالات تهدد بالمقاطعة إذا لم تلتزم هذه الشركات بمطالبها".