انتهى، أمس، الجزء الأول من مهرجان برلين السينمائي بين 10 و20 فبراير (شباط) المخصص للمحترفين والإعلام والوسط السينمائي، بتوزيع الجوائز على الفائزين في فئات مختلفة. وكان "الدب الذهبي"، أرفع الجوائز التي تسند في هذه التظاهرة السينمائية الألمانية، من نصيب المخرجة الإسبانية (الكتالونية) كارلا سيمون عن فيلمها "ألكاراس" الذي يروي من ضمن ما يرويه، التأثير السلبي للتطور الصناعي في المجتمع الزراعي وذلك في منطقة كتالونيا التي تتحدر منها المخرجة. هذا أيضاً أول فيلم ناطق باللغة الكتالونية يفوز بهذه الجائزة.
تتمحور أحداث الفيلم حول عائلة سوليه التي لطالما كان أفرادها يمضون عطلتهم الصيفية في قطف الدراق في بستانهم بقريتهم الصغيرة. يبدأ الفيلم في اللحظة التي يدركون فيها أن محصول هذا العام قد يكون آخر محصول لهم، إذ إنه يطلب منهم إخلاء المكان بسبب المشروع الجديد الذي "سيحتل" الأرض. أشجار الدراق الجميلة سيتم اقتلاعها واستبدالها بألواح الطاقة الشمسية. هذا كله سيفضي إلى تصدع داخل العائلة التي كانت متماسكة إلى الآن. للمرة الأولى، ثلاثة أجيال من عائلة واحدة ستسكن في هذا المكان البديع، لتواجه مستقبلاً مجهولاً، علماً أن الخسائر لن تكون مادية فقط.
هذا ثاني فيلم لكارلا سيمون البالغة من العمر 36 عاماً. في عام 2017، عرضت في برلين ضمن قسم "أجيال"، باكورتها الروائية "صيف 1993" عن فتاة صغيرة تذهب لتعيش مع عملها وعائلته بعد وفاة أمها ووالدها بسبب مرض الإيدز. وكان الفيلم قد فاز بجائزة العمل الأول في البرليناله، إضافة إلى 30 جائزة فاز بها حول العالم. في "ألكاراس"، مرة جديدة تعتمد سيمون على تجربتها في الحياة الريفية، حيث النشاط البشري هو جزء من دورة تحكمها المواسم في مناخ متقلب، في حين أن ديناميكيات الأسرة مشوشة دائماً بسبب المخاوف الاقتصادية. ولكن هناك أيضاً اختلافات في كيفية ارتباط كل فرد بعامل الوقت.
سيرة كارلا سيمون الشخصية غير عادية، فهي عانت في طفولتها من فقدان والديها بمرض الإيدز عندما كانت في السادسة. حكاية "صيف 1993" هي حكايتها بالتفاصيل وقد صور الفيلم في المكان الذي نشأت فيه، أي في مدينة غاروشا الواقعة في شمال كتالونيا. هذه المتخرجة في جامعة برشلونة المستقلة، والتي درست أيضاً السينما في جامعة لندن تنال مع "الدب الذهبي" اعترافاً دولياً بموهبتها من واحد من أهم المنابر السينمائية في العالم، ومن يد المخرج الأميركي أم نايت شيامالان الذي ميز فيلمها من بين 18 فيلماً آخر، كاشفاً عن اهتمام بسينما بعيدة جداً من السينما التي ينجزها.
جائزة لجنة التحكيم الكبرى ذهبت إلى المخرج الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو المعروف بسينماه ذات الطابع الحميمي، حيث يكثر الكلام وتتكرر المواقف، وهي دائماً بالأسود والأبيض وبمدة عرض لا تتجاوز الدقائق الـ90. هذا الذي اعتاد أن يعرض أفلامه في كان وبرلين (فاز في الأخير بجوائز عدة)، لم يغير أسلوبه هذه المرة في جديده "فيلم الروائية"، إذ يعرفنا على كاتبة تدعي جونهي تلتقي بسيدتين من معارفها: الأولى تخلت عن التأليف لتفتح مكتبة ولم تبد أي رأي في أعمالها، والثانية مخرجة كان من المفترض أن تقتبس إحدى رواياتها لكن هذا لم يحصل. على الرغم من المرارة التي تشعر بها حيال هذين الأمرين، فمشكلة جونهي هي أنها لم تعد قادرة على الكتابة منذ فترة، لكونها تعبر في مرحلة شكوك ومساءلة للذات. يمكن القول، إن سانغ سو أراد فيلماً عن "تأثير الزمن في الحيوات المكرسة للفن". والنتيجة لا تختلف كثيراً عما اعتدنا أن نراه في أفلامه السابقة.
المخرجة البوليفية المكسيكية ناتاليا لوبيز غالاردو نالت جائزة لجنة التحكيم عن فيلمها "ثوب الجواهر". القصة: تستحوذ إيزابيل وعائلتها على فيلا والدتها في ريف المكسيك وتعاود الاتصال بمدبرة المنزل ماريا. لكن كل الأمور تغيرت منذ رحيل والدتها. المنزل الذي كان نموذجياً في السابق أصبح مهجوراً ومهملاً. في وسط هذه الأجواء، تضع المخرجة كاميراتها في أول عمل روائي طويل لها. العنف حاضر لكنه صامت، وحضوره نفسي أكثر منه جسدياً. غالاردو التي سبق أن عملت مونتيرة لسينمائيين مكسيكيين معروفين مثل آمات إسكالانته وكارلوس ريغاداس، مزجت بين الواقعية والأحلام والاستعارات حيث تتعرض الشخصيات لدرجات متفاوتة من الفقد والتخلي. جائزة أفضل إخراج ذهبت إلى المخرجة الفرنسية الكبيرة كلير دوني (75 عاماً) عن فيلمها "بحب وضراوة" عن مثلث غرامي بين فنسان لاندون وجوليات بينوش وغريغوار كولان على خلفية حب وخيانة وغيرهما من المشاعر المرهفة والعنيفة التي تعرف دوني عادة كيف ترويها. الفيلم ثالث تعاون لدوني مع الكاتبة المشهورة كريستين أنغو. بينوش في الفيلم مرنة بشكل استثنائي بحيث يصبح جسدها أرضاً لمسرح آسر من الأضداد العاطفية.
بعدما ألغيت جائزتا أفضل ممثل وأفضل ممثلة بدءاً من العام الماضي ليتم استبدالهما بجائزتي أفضل تمثيل في دور رئيس وأفضل تمثيل في دور ثانوي من دون تمييز بين المرشحين على أساس جنسي، نالت التركية ملتم قبطان جائزة أفضل تمثيل عن دورها في "ربيعة كرناز ضد جورج بوش" للألماني أندرياس درايسن الذي استحق أيضاً جائزة السيناريو الذي وضعته ليلى ستيلر. والفيلم عن سيدة تركية تعيش في ألمانيا ونضالها من أجل تحرير ابنها المتهم بالإرهاب والقابع في سجن غوانتانامو، غداة هجمات 11 سبتمبر (أيلول). أما جائزة أفضل تمثيل في دور ثانوي فاقتنصتها الممثلة الإندونيسية لورا باسوكي عن دورها في "نانا" لكاميلا أنديني.
جائزة بارزة أخرى قدمتها لجنة التحكيم وهي "أعظم مساهمة فنية" كانت من نصيب المخرج الكمبودي المقيم في فرنسا ريثي بان عن "كل شيء سيكون أوكي" حيث يصور شخصيات من عرائس في "نوع" سينمائي كان أطلقه في "الصورة المفقودة"، عالماً خيالياً سيطرت عليه الحيوانات بعد قرن كامل من الإبادات الإيديولوجية والتدمير.
قد يستغرب البعض سيطرة العنصر النسائي على قائمة جوائز المهرجان الذي يستمر إلى العشرين من الجاري. لكن مذيعة الحفلة نفسها اعترفت بكل فخر أن "برلين لطالما كانت تظاهرة سياسية"، وهذا المد السياسي تطور في السنوات الأخيرة ليشمل "سياسات الهوية" في أجواء من الصواب السياسي، فأصبح مهرجان برلين نتيجة هذا كله رأس حربة حقيقية في قضايا المساواة بين الرجال والنساء ودمج المهاجرين والسيولة والجنسية. ولكن، هل لا يزال هناك مكان للفن الخالص داخل هذا كله؟ السنوات المقبلة حاسمة وكفيلة بالرد على هذا الهاجس الذي يعيشه كثر من السينمائيين الذين لا يتعاطون السياسة والقضايا كملفات وبأسلوب مباشر.