حسن فحص
لم تتأخر طهران وقيادة النظام الإيراني في استيعاب الصدمة التي أحدثتها نتائج الانتخابات العراقية المبكرة، وما أسفرت عنه من تراجع واضح لتمثيل القوى المحسوبة عليها أو الموالية لها في البرلمان الجديد، مما يعني عزوف القاعدة الشعبية عن الانجرار وراء الشعارات التي رفعتها هذه القوى بالدفاع عن وجودها السياسي والعسكري، في مقابل إهمالها للأزمات المعيشية والحياتية والاقتصادية التي يعانيها المواطن العراقي ودفعت به للخروج إلى الشوارع في تظاهرات واضحة في مطالبها المناهضة للطبقة السياسية الحاكمة التي عاثت فساداً وتحاصصاً وتخريباً في مؤسسات الدولة، وربطت القرار السيادي للعراق بمصالح دول الجوار.
ودفع ذلك إيران إلى إعادة حساباتها على الساحة العراقية والعمل على ترميم ما أصاب وجودها وصورتها من جروح، بعدما تركزت شعارات المتظاهرين ضد دورها ورفضاً للقوى الموالية لها.
وعاشتها القوى المقربة من إيران حال إرباك بعد الاعلان عن النتائج، إذ وجدت نفسها، والتحالف الذي شكلته، وجهاً لوجه مع حقيقة أنها خسرت موقعها المتقدم داخل "البيت الشيعي" لمصلحة "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي أولاً، بعدما عملت على محاصرته في الانتخابات السابقة وسعت إلى محاصرة دوره وتمثيله الشعبي، وثانياً لمصلحة التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر الذي استطاع التحليق بعيداً بفارق كبير عن أقرب منافسيه، بعدما كانت النتائج متقاربة خلال الانتخابات السابقة، مما يسمح له بالتفرد بزعامة الحال الشيعية في العملية السياسية، وبناء تحالفات مع مكونات أخرى تضمن له لعب دور مفصلي ومقرر في رسم صورة السلطة خلال المرحلة المقبلة، وهو ما لا يمكن أن تقبل به ليس فقط القوى الداخلية المنافسة من داخل المكون الشيعي، أو المكونات الأخرى السنيّة والكردية التي ستجد نفسها خاضعة لرغباته وتقلباته، بل أيضاً القوى الإقليمية والدولية، وتحديداً طهران وواشنطن اللتان لا تريدان أو ترغبان في دفع الساحة العراقية إلى الانفجار أو اعتماد خيارات لا تساعد في تسهيل المسار التفاوضي والتفاهمات التي يجري بناؤها بينهما.
وفي خطوة قد تسهم في كبح جماح المسار التصعيدي الذي لجأت إليه بعض القوى الموالية وفصائل ما يُعرف بالمقاومة، وتهديدها باللجوء إلى تفجير الشارع مع التلويح باستخدام السلاح لمواجهة "المؤامرة" التي تعرضت لها و"التزوير" الذي جرى في عملية الاقتراع وفرز الأصوات و"سرقة" المقاعد منها، أعلنت طهران ترحيبها بنتائج العملية الانتخابية وما خرجت به من نتائج، معتبرة أن الاختلافات والصراعات على النتائج بين القوى العراقية شأن داخلي.
الموقف الإيراني الذي يبدو عقلانياً من الانتخابات العراقية، يأتي كمؤشر إلى بداية خروج طهران من الصدمة الأولى، والعودة لاعتماد قراءة واقعية للمشهد العراقي، وإمكان التعامل مع الوضع المستجد بغض النظر عن الاتجاه الذي قد يذهب له في ما يتعلق بالجهة صاحبة الكلمة العليا في تشكيل الحكومة، والتي سيكون من حقها اختيار رئيس الوزراء.
من هنا قد يكون على الدبلوماسية الإيرانية مهمة الحد من الصراع والخلافات بين القوى الشيعية، كما عليها أن تبذل جهداً من أجل تقريب وجهات النظر بين معسكري هذا المكون، أي التيار الصدري من جهة والإطار التنسيقي الذي سلم بقيادة المالكي وحقق أعلى نسبة من الأصوات والمقاعد داخل هذا المكون بعد الصدر من جهة أخرى، وقد تسمح هذه الخطوة للفاعل الإيراني بالانتقال إلى استقطاب القوى السياسية من خارج المكون الشيعي، وبالدرجة الأولى القوى المعتدلة من وجهة نظر إيران من المكون السنّي، في حين أن القوى الكردية لن تكون عقبة لناحية إمكان التحاقها بالمسعى الإيراني إذا ما وجدت أن مصالحها تتحقق مع هذا الفريق الذي قد يستطيع تشكيل الكتلة الأكبر عدداً في الجلسة الأولى للبرلمان الجديد.
ومن المفترض أن تذهب طهران إلى تسوية في المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة، إذ باتت على مشارف العودة لطاولة المفاوضات في بروكسل وليس فيينا، في ظل احتمال كبير أن تؤسس هذه العودة لفتح الباب أمام التفاوض المباشر بينها وبين واشنطن على مبدأ العودة المتزامنة إلى اتفاق العام 2015، بحيث يقدم كل طرف ما يعزز الثقة بنياته الإيجابية للخروج من هذا المأزق، فتوافق واشنطن على إلغاء كل العقوبات التي أُعيد فرضها ما بعد العام 2018، وقرار الرئيس السابق دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق، في مقابل عودة طهران عن كل الخطوات التي قلصت فيها التزاماتها بهذا الاتفاق، في ما يتعلق بأنشطة تخصيب اليورانيوم وعمل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي رفعت المخاوف الدولية والإقليمية إزاء وجود نية بالانتقال إلى البعد العسكري في البرنامج النووي.
في هذه الأجواء يُستبعد أن تتبنى القيادة الإيرانية مساراً تفجيرياً على الساحة العراقية، خصوصاً وأن هذه الساحة تشكل اختباراً حقيقياً لقدرتها الحفاظ على إنجازاتها الإقليمية، لا سيما وأن خسارة هذه الساحة قد تفتح الطريق لخسائر أخرى في الإقليم لا يمكن أن تتحملها، لذلك فهي ستسعى إلى توظيف قرار العودة للمفاوضات النووية في تكريس تفاهم بالحد الأدنى مع واشنطن على الساحة العراقية، على أساس معادلة "لا غالب ولا مغلوب"، وعلى قاعدة التوافق بينهما على تسهيل عملية اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة.
وقد تلجأ طهران إلى استخدام ورقة التحالفات لتخفيف آثار انتصار الصدر والتقليل من ارتداداته المحتملة على موقعها بين القوى الشيعية، ففي حال لم تستطع التوصل إلى الحد الأدنى من التفاهمات مع مقتدى الصدر، لتفادي أي مواجهة أو صدام معه، فإنها قادرة على الذهاب إلى خيار تشكيل كتلة أكبر عدداً من خلال قوى "الإطار التنسيقي" التي تملك مجتمعة حتى الآن حوالى 90 مقعداً، وسيسمح ذلك لطهران باستخدام هذه الورقة في حال كانت الأمور تتجه إلى محاصرتها وتحجيم دورها في العراق، مقدمة لمحاصرتها في المنطقة.
الدخول في مواجهة مفتوحة مع التيار الصدري وعدم السعي إلى استيعابه والتفاهم معه على طبيعة المرحلة المقبلة قد يدفع المشهد العراقي نحو الانفجار، مما يعني أن إيران ستكون في مواجهة عراق مضطرب وغير مستقر، وبالتالي تكون مجبرة على التعامل مع خاصرة رخوة وما فيها من تهديد لأمنها القومي، وقد تفرض هذه المخاوف على إيران أن تعمل على حل الاختلافات بين القوى الشيعية التي لا تعود عليها بأي نفع، وأن تقطع الطريق على التداعيات السلبية لأي تصعيد لن يكون حتماً في مصلحتها.