حسن فحص
مع المؤشرات الأولى لنتائج الانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة وما تحمله من بوادر تغيير ومفاجآت حقيقية في المشهد السياسي، أُديرت محركات الطائرة الخاصة في مطار العاصمة الإيرانية طهران لتحمل على وجه السرعة المسؤول عن الملف العراقي، قائد "قوة القدس" في "حرس الثورة" الجنرال إسماعيل قاآني وفي جعبته "أمر عمليات" للقوى العراقية الموالية لطهران أو التي تدور في فلكها بضرورة التحرك السريع والقيام بهجوم معاكس لاستيعاب الهجوم الذي شنّه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي انطلق من صناديق الاقتراع، ومنعه من تثبيت مواقعه وفرض أمر واقع قد يعقّد عملية اختراقه مع مرور الوقت. زيارة يصرّ المستشار السياسي لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على عدم حصولها.
لا شك في أن ما حملته مخرجات صناديق الاقتراع والحقيقة التي تمخّضت عنها من هزيمة قاسية للقوى والأحزاب المقرّبة من طهران والتي تحرص على استمرارها بفاعلية في المشهد السياسي والبرلماني والأمني في العراق، شكلت صدمة حقيقية للقيادة الإيرانية، التي بات عليها التعامل مع مستجد خارج عن دائرة التوقعات على خاصرتها الغربية، قد يحمل في داخله وآلياته تهديداً لمصالحها الاستراتيجية ويضع مشروعها في منطقة الشرق الأوسط في دائرة الخطر الحقيقي، في وقت تواجه تحديات لا تقل خطورة وتعقيداً على حدودها الشمالية الغربية مع أذربيجان والطموحات التركية في منطقة القوقاز الجنوبية، إضافة إلى الغموض الذي تتعامل معه على حدودها الشرقية بعد التحدي الذي أنتجته سيطرة حركة "طالبان" على أفغانستان والدولة فيها، وما تشكّله هذه التطورات من تهديد بمحاصرة مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية وما يمكن أن تنتجه من مخاطر بإحداث تغييرات جيوسياسية بينها وبين دول الجوار هذه.
ربما تستطيع طهران التعامل مع التطورات والمتغيرات التي قد تنتجها الانتخابات العراقية بأن تعمد إلى إجراء فوقي بتكريس حل يؤسس لانقسام عمودي حقيقي داخل البيت أو المكوّن الشيعي يختزن مخاطر عدة على مصالحها المستقبلية، من خلال تجميع كل القوى والأحزاب والفصائل المتضررة من الصعود الكبير للتيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر ضمن تحالف موحّد هدفه قطع الطريق على الكتلة الصدرية ومنعها من الاستئثار أو ادعاء حصرية التمثيل الشعبي لهذا المكوّن الذي يشكل الملعب الرئيس للدور الإيراني. وليس مستبعداً أن تنجح في ذلك، إلا أن هذا الخيار سيعني كسر وتخريب كل جسور التفاهم مع هذه القوة الشعبية المؤثرة، بالتالي إحداث تفسخات وتشققات في جدران البيت الذي تحتمي به، مع إمكانية حصول تطورات سلبية قد تؤدي إلى إشعال الشارع بمواجهات دموية لن تكون نتيجتها سوى القضاء على آخر ما تبقّى لها من دور أو نفوذ أو موطئ قدم على الساحة العراقية.
إحساس الصدمة الذي تشعر به القيادة الإيرانية، قد يكون مبالغاً فيه، أو أنه جاء متأخراً وبعد عجز في قراءة التحولات التي شهدها ويشهدها الشارع العراقي الشعبي والسياسي، خصوصاً داخل المكون الشيعي الذي بدأ يجاهر منذ أعوام بالإعلان عن معارضته لنفوذ طهران ودورها وحجم تدخلاتها في الشؤون الداخلية العراقية من دون خوف أو خشية من دفع ثمن هذه المواقف. وإذا ما كان التيار الصدري وزعيمه، من أبرز وأكثر الأطراف العراقية وضوحاً في اعتراضه على الدور الإيراني والمجاهرة بذلك، وهي مواقف انعكست على موقف قواعده الشعبية التي سارت وتبنّت هذه المواقف، إلا أنه في الكثير من المفاصل، كان يتراجع ويلجأ إلى مواقف تسووية استجابةً لحجم الضغوط التي تمارس عليه، وعدم امتلاكه للقاعدة السياسية التي يمكن أن يعتمد على دعمها من داخل الصف الشيعي للتمسك بهذه المواقف.
من هنا، فإن المخاوف الإيرانية قد لا تكون متأتية من المتغيرات في توزيع موازين القوى بين أطراف المكوّن الشيعي، وقد حصل مثيلها في الماضي واستطاعت ترميم صفوفها بالحد الأدنى من الخسائر. إلا أنها هذه المرة تأتي من كونها صادرة عن جهة لم تستطِع القبض عليها أو الإمساك بقرارها بشكل محكم، واستطاعت في أكثر من مناسبة أن تتفلت منها، وأن تعلن عن خياراتها الموازنة بين العلاقة مع إيران بما تمثله من بعد مذهبي وعاطفي وثقافي وحتى أمني، وبين رغبتها بإعادة ترميم عمقها الإقليمي وحاضنته العربية. وقد لا يكون شعار حصر السلاح بيد الدولة ومكافحة السلاح المتفلت الذي رفعه الصدر جديداً، فقد سبق أن رفعه رؤساء وزراء سابقون منذ أيام حيدر العبادي، مروراً بعادل عبد المهدي وصولاً إلى مصطفى الكاظمي، إلا أن إشارته الواضحة إلى الميليشيات التي تدّعي أو ترفع اسم المقاومة وقرنها بموقفه الحاسم في محاربة الإرهاب وتغوّل الميليشيات غير المنضبطة، ووضعها أيضاً في سياق استعادة هيبة الدولة وسيادتها على القرار العراقي، هي التي أطلقت جرس الإنذار لدى طهران وحلفائها العراقيين، لأنها اعتبرت نفسها الطرف المستهدف بهذه المواقف، بالتالي لجأت إلى تصعيد لهجتها وتحذيراتها من أي مقاربة لسلاحها ومساحات نفوذها ودورها على الخريطة السياسية والأمنية والعسكرية، ما نقل الساحة المنافسة من دائرة الانتخابات والأصوات، إلى إمكانية الذهاب إلى خيار اللجوء إلى السلاح، وهو خيار متاح للطرفين القادرين على استخدامه.
ما بين خيار أخذ المشهد العراقي إلى خيار المواجهة بإسقاط كتلة الصدر الأكبر، وخيار الذهاب إلى التوافق وترميم أركان البيت الشيعي والاعتراف بدور الصدر والقوى الناهضة من خارج منظومة القوى الموالية لطهران، يبدو أن هناك إمكانية لدى القيادة الإيرانية للابتعاد عن أي سلوك قد يؤدي أو ينتهي إلى تفجير الساحة العراقية في هذه المرحلة الحساسة والمعقدة إقليمياً، ما يعني أن على إيران الاعتراف بأن المرحلة تشهد ولادة عراق جديد أسهمت في تشكيله التطورات السياسية التي حدثت في الأعوام الأخيرة، إضافة إلى الحراك الشعبي والتظاهرات التي خرجت تحت شعارات واضحة ضد النفوذ الإيراني واستطاعت أن تحفر حيّزاً لنفسها في المشهد السياسي والشعبي. واستطاع الصدر أن يقترب من هذه الحالة الجديدة إلى حد التطابق معها، إلا أن ذلك لا يسمح من وجهة نظر إيرانية بتكريس مفهوم "عراق صدري"، وعليه فإن على القيادة في طهران الأخذ في الاعتبار كيفية التعامل مع هذه المتغيرات والتطورات والبحث عن السبل التي تخفف عنها الخسائر المتوقعة لمسار تراكمي من السلوكيات السلبية التي اعتمدتها مباشرةً أو عبر حلفائها في العراق.