Skip to main content

ملف إيران النووي، براغماتية مطلقة وأيدلوجية مرنّة

إيران
AvaToday caption
بالنسبة لإيران،فهي بحاجة ماسّة لعودة الولايات المتحدة للإتفاق النووي،لأنها تعاني من العقوبات وتجد أن من مصلحتها تخفيف ورفع جزء من المعاناة عن شعوبها،لأن الأمر لم يعد يحتمل مزيد من الضغط على الإيرانيين
posted onFebruary 8, 2021
nocomment

 

د. سليم الدليمي

 الدرس الذي يمكن تعلمه من مسارات السياسة الخارجية الإيرانية هو أن قرارات الأمن القومي لطهران تستند إلى المصالح وليس الأيديولوجية،وأن التقدم في المفاوضات النووية ممكن إذا تم تأطيرها من حيث مبدأ مصلحة النظام،الذي ينصب اهتمامه الأساسي على بقاء هيكل السلطة وليس الإنسياق خلف دعوات ماعادت تصلح لقرن مابعد الحداثة والعولمة.

فرغم كل ماقيل وينقل عن رفض إيران المطلق والمشروط لأي عودة للإتفاق النووي وإزالة سباق  التجاوزات والإنتهاكات التي عملت عليها إيران منذ انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في مايو 2018،فأن هناك إشارات تدلل على إحتمالية عودة إيران للإتفاق.والمعلوم أن إيران بدأت في انتهاك بنود الاتفاق النووي الذي وقعت عليه مع دول أخرى بجانب الولايات المتحدة (مجموعة 5+1).منذ إنسحاب الإدارة الأمريكية منها عام 2018،وعلى مراحل. وبالرغم من أن الدول الخمس الأخرى الموقعة على الاتفاق أكدت تمسكها به،إلا أن إيران استمرت بالتصعيد،إلى أن أعلنت،عن تخليها وبشكل كامل عن آخر قيود الاتفاق النووي؛جاء ذلك ضمن بيان للحكومة الإيرانية أكدت فيه أنها لم تعد ملزمة بأي قيد من القيود العملياتية التي تشمل مستوى تخصيب اليورانيوم وحجم المواد المخصبة وأعداد أجهزة الطرد المركزي والأبحاث والتنمية.

  ورغم أن المرشد الأعلى أية الله علي خامنئي قد شددّ  يوم 7 فبراير /شباط 2021،على موقفه السابق بشأن إحياء الاتفاق النووي،وهو رأي متواتر طبع السياسية الإيرانية منذ انسحاب الولايات المتحدة من الإتفاق عام  بالقول"إذا كانوا يريدون عودة إيران إلى التزاماتها وفق الإتفاق النووي،فيجب على الولايات المتحدة رفع العقوبات عمليًا،وبعد ذلك سنقوم بالتحقق ونرى إن كانت العقوبات قد تم رفعها بالشكل الصحيح،عندها سنعود إلى الالتزام بالإتفاق والعودة للوفاء بالتزاماتها النووية،وهذه هي السياسة النهائية للجمهورية الإسلامية،ولن يحيد عنها أحد"..كما وصف المرشد كلام المسؤولين الأوروبيين والأميركيين عن الاتفاق النووي بأنه "هراء"،قائلاً إن هؤلاء "ليس لهم الحق في وضع شروط للاتفاق،ولا أحد في الجمهورية الإسلامية يستمع لهذه الكلمات".

   دعوة المرشد الأعلى هذه تأتي ردًا على دعوة سابقة أطلقها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بالعودة المتزامنة من قبل الولايات المتحدة وإيران إلى الاتفاق،اقترح خلالها أن يحدد وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل "التدابير التي يجب أن تتخذها الولايات المتحدة وتلك التي يجب أن تتخذها إيران".مضيفًا الوقت ينفد أمام الأمريكيين،بسبب قانون للبرلمان الإيراني يلزم الحكومة بتشديد موقفها النووي إذا لم يتم تخفيف العقوبات الأمريكية بحلول 21 فبراير/شباط.وأيضا بسبب جو الانتخابات التي ستليّ السنة الإيرانية الجديدة "التي تصادف في 21 مارس /أذار  القادم.وهذه هي المرة الأولى التي يلمح فيها ظريف إلى أن إيران قد تتراجع عن مطلبها بأن تخفف الولايات المتحدة عقوباتها الاقتصادية قبل أن تستأنف طهران الالتزام ببنود الاتفاق.

      من جانب أخر أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن بلاده لن ترفع العقوبات عن إيران أولاً قبل وقفها الخروقات،فضًلا عن دعوات اطلقها وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلنكن ومستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان،لعودة إيرانية غير مشروطة للإتفاق،وإلتزامها الكامل ببنوده،من أجل السماح لواشنطن بعودة سريعة،والنظر في تخفيف جزء من العقوبات.كما جرى تداول تسريبات صحفية تقول أن وزير الخارجية الأمريكي طلب من مسؤول الملف الإيراني في الإدارة الأمريكية  روبرت مولي بتشكيل وفد تفاوضي للبدء بإجراءات العودة للإتفاق النووي،كما عقد وزير الخارجية الأمريكي اجتماعًا افتراضيًا مع وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا،وتواصل هاتفيًا مع عدد من الوزراء في الخليج للنظر في موضوع الاتفاق وشروط العودة إليه.

رغم كل هذا التعقيد فأن المؤشرات تؤكد أن عودة إيرانية -أمريكية للإتفاق النووي والإلتزام ببنوده بالنسبة للطرفين،هي مسألة وقت،وان كل طرف يحاول من خلال هامش الدبلوماسية المتاح أن يتلاعب بالإلفاظ والتصريحات والتحركات لإجبار الخصم على تقديم مزيد من التنازلات،وقد ظهر ان هذه التنازلات قد تكون مقدمة حقيقية لإطلاق حوار غير مباشر يسبق المفاوضات المباشرة،ولذلك يلجأ البلدان لإستخدام الوسطاء في إيصال الرسائل فيما بينهما،ولهذا نجد أن الولايات المتحدة تفضل الطرف الأوربي للقيام بهذه المهمة،فيما ترى إيران أن روسيا هي الوسيط الموثوق والذي بإمكانه أن يقدم ضمانات لها على أن الولايات المتحدة ستطبق تعهداتها بالعودة وتخفيف العقوبات قبل الشروع في تفاوض يتناول التحسينات المطلوبة على الاتفاق.

وبالنسبة للولايات المتحدة فأنها مستعدة للذهاب إلى ابعد الحدود من أجل العودة للإتفاق النووي بحجة أن العقوبات القصوى التي فرضها الرئيس السابق لم تؤدِ إلآ إلى زيادة قدرة إيران على تطوير برنامجها النووي وان طهران باتت قاب قوسين أو أدنى من إمتلاك سلاح نووي، ولهذا بادرت إلى تشكيل وفد تفاوضي،وتشاورت مع حلفائها وطرحت بدائل لإقناع إيران بالعودة للإتفاق،ومنها السماح لصندوق النقد الدولي بإقراض إيران الأموال اللازمة لشراء التجهيزات الطبية الخاصة بمعالجة جائحة كورونا،والنظر في تخفيف بعض العقوبات التي لاتمس جوهر  العقوبات وبالشكل الذي يضّر بالهدف منها،وهو عنوان فضفاضّ غير واضح،يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة مصممة على إقتلاع آرث ترامب ومنها قضية العقوبات حتى وأن كان ذلك يّضر بتحالفاتها في المنطقة وإسرائيل.    

أما بالنسبة لإيران،فهي بحاجة ماسّة لعودة الولايات المتحدة للإتفاق النووي،لأنها تعاني من العقوبات وتجد أن من مصلحتها تخفيف ورفع جزء من المعاناة عن شعوبها،لأن الأمر لم يعد يحتمل مزيد من الضغط على الإيرانيين،وأنها أمام البلاد تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية كبيرة أن هي استمرت في طريق العناد والصلفّ،وان مايقوله المرشد هو دعم  دبلوماسية بلاده،وقد رأينا في السابق،أن القيادة الثيوقراطية في إيران كانت في كل عقود حكمها تمارس التقيّة السياسية،وتلجأ إذا اقتضى الأمر لتقديم المصلحة على الأيدلوجية الثورية التي تتبناها.

وبإمكان المتابع للسياسة الخارجية الإيرانية أن يوّرد سلسلة طويلة من التناقضات التي تسجل على سياسة طهران،ومن ثم تراجعها عن أهداف ثورية كانت قد أعلنت عن إلتزامها المطلق بتحقيقها،لأسباب مصلحية ،ومنها:

  1. إنهاء الحرب مع العراق،رغم أن الزعيم الإيراني السابق للثورة أية الله الخميني قد أعلن منذ بداية الحرب أنه لن يقوفها إلا بعد تحرير بغداد وإسقاط  النظام البعثي وإعلان الثورة الإسلامية في العراق،ولكنه لجأ لـ(تجرع السمْ) لاحقًا وقبل بإيقافها مضطرًا.
  2. كما أن المتحدثين باسم النظام لديهم عادة في تقديم تفسيرات ملائمة عندما يتعلق الأمر بالفتاوى والسياسة الخارجية.مثال ذلك،عندما أدت فتوى أصدرها الخميني عام 1989 ودعا فيها إلى قتل الكاتب سلمان رشدي،إلى إثارة أزمة في العلاقات مع أوروبا،حاول مسؤولو وزارة الخارجية الإيرانية التقليل من أهميتها،زاعمين أن الفتوى تعكس الرأي الشخصي للمرشد الأعلى وليست ملزمة رسمياً.
  3. وفيما يتعلق بالفتوى النووية لخامنئي والتي حرم فيها إمتلاك السلاح النووي،حاول مسؤولو وزارة الخارجية الإيرانية مراراً إقناع المجتمع الدولي بأنها حكم ديني ملزم وستمنع البلاد من الحصول على القنبلة -على الأقل إلى أن جاء تصريح أمير موسوي -وهو دبلوماسي إيراني سابق وعضو في الحرس الثوري الإيراني- الشهر الماضي والذي زعم فيه أن الفتوى لن تمنع حصول بلاده على السلاح النووي،فالفتوى تتغير حسب الأزمنة .
  4.  أدى مبدأ "مصلحة النظام" هذا إلى تأجيل إيران لطموحاتها النووية وتعليق البرنامج مؤقتاً في مناسبتين على الأقل: في عامي 2003 و 2015. وجاء القرار الأول عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق،بينما جاء القرار الثاني على الرغم من مزاعم طهران السابقة بأن لن تتفاوض أبداً تحت العقوبات.

إن السبب في إمكانية عكس القرارات الإيرانية هو أن مبدأ مصلحة النظام،هو الذي يوجه صياغة السياسة في الجمهورية الإسلامية.وقبل وفاته،قال الخميني أنه يحق للنظام تدمير مسجد أو تعليق التقيّد بالتعاليم الإسلامية إذا كانت مصالحه تمليه ذلك.وتعني هذه المرونة أن مواقف طهران التفاوضية وخطوطها الحمراء ليست مقدّسة إذا كان انتهاكها سيعزز مصالح النظام.وبالفعل،تراجع وزير الخارجية محمد جواد ظريف أساساً عن إصراره على اتخاذ الولايات المتحدة الخطوة الأولى من أجل العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة،متحدثاً بدلاً من ذلك عن سبل لـ "تزامن" أو "تصميم" عودة الولايات المتحدة.

ويعني ذلك أيضاً أن دور الإيمان والثقة في التوصل إلى اتفاق مبالغ فيه إلى حدّ كبير،رغم تشديد الدبلوماسيين الإيرانيين باستمرار على أهميتهولا يمكن للدبلوماسية أن تنجح إلا عندما تخلص طهران إلى أن أي اتفاق جديد أو سلسلة من الاتفاقيات ستدعم مصالحها

من بين السيناريوهات المتوقعة لمستقبل العلاقة الأمريكية- الإيرانية في إطارها النووي الحالي:

السيناريو الأول: هو أن تخوض الولايات المتحدة الأمريكية وإيران جولات تفاوض عبر الأطراف الأوربية المشاركة في الإتفاق النووي،قبل أن يجلس الجانبين وجها لوجه،مع تقديم احد الأطراف التنازلات المطلوبة،وفي الإتفاق السابق،قدمت الولايات المتحدة التنازل عندما بينّت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما أنها هدفها من المفاوضات هو منع وجود سلاح نووي إيراني،وليس قدرة نووية إيرانية وهو تعبير مُلطف  للتخصيب،مما سمح لإيران بتقديم الحجج أمام شعبها أنها قد حققت ماتريد طالما أنها احتفظت بحق التخصيب.وهو مايمكن أن يتكرر عبر إقرار العودة للإتفاق مع تخفيف العقوبات الاقتصادية على طهران،بما يسمح للزعيم الإيراني علي خامنئي بإدعاء تحقيق الانتصار.

السيناريو الثاني،هو الدخول في مفاوضات مباشرة عبر طرف أخر،كأن يكون سلطنة عُمان أو قطر اللتان تحتفظان بعلاقات جيدة مع إيران،من أجل تجاوز الكثير من الإحراج الذي تشكله وسائل الإعلام التي تحاول أن تصور الموضوع وكأنه تنازل قدمه طرف لصالح الطرف الأخر،وهو أمر حصل عام 2013 عندما اختار البلدان مسقط لتحقيق خرق كبير في المفاوضات النووية.

السيناريو الثالث،هو التصعيد في المواجهة والذي يبدو أنه لن يحقق لأي من واشنطن وطهران أهدافهما المرجوة،فواشنطن على قناعة كاملة أن العقوبات الأمريكية وان نجحت في الحدّ من قدرة إيران على التأثير في المنطقة،لكنها لم توقف برنامج إيران النووي،ولم تسقط النظام الثوري حسب رغبة بعض الصقور في واشنطن،وان أي تصعيد سيقود إلى توتر وربما إلى إشعال حرب في المنطقة لاترغب فيها واشنطن حاليًا على الأقل.وبالنسبة لطهران فأذا كانت التهديدات بالحرب وآثر العقوبات تشكل نقاط ضعف في موقفها أمام الادارة الأمريكية،فأن بقاء النظام وتماسكه وتقدم برنامجها النووي هو مكمن قوتها ‘فضلاً عن برامج الصواريخ واذرعها الممتدة في المنطقة،وكما عبر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلنكن عن مخاوفه بأن بإمكان إيران صنع سلاح نووي  خلال أسابيع،فأن تحمل العقوبات بالنسبة للنظام الإيراني اصبحت مفيدة وتوازي تكلفة(بناء القوة)والحصول على التقدم النووي والصاروخي.

السيناريو الأخير،هو أن تلجأ إسرائيل كحلّ أخير لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية لمنع إيران من الحصول على التقنية النووية الكاملة،وهو أمر مكلف لها.

ختامًا يبقى ترجيح السيناريوهات الخاصة بالتفاوض المباشر أو غير المباشر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران هو السائد في الظروف الراهنة،مع وجود إحتمالية كبيرة لتقديم تنازلات من كل الأطراف لضمّان إحياء وعودة سريعة وعاجلة للإتفاق النووي بما يضمن ماء الوجه لكل طرف.