علي الصراف
التهديدات الإيرانية للبحرين ليست جديدة. ذلك لأنها لم تنقطع أبدا منذ قيام الجمهورية الخمينية حتى الآن. وهي تتخذ من وجود أقلية شيعية تعلة لاستمرارها.
وبرغم أن أبناء هذه الأقلية مواطنون يدينون بالولاء لبلدهم، فإن طهران تنظر إليهم كأتباع، وتجرؤ على أن تستأجر الرخيص منهم للقيام بأعمال تخريبية ولتهديد الاستقرار واختلاق المشاكل.
ولقد تم كسر شوكة المأجورين منذ أن أظهرت السلطات موقفا أمنيا حازما تجاه تلك الأعمال. وفي الواقع، فقد كان ذلك الموقف الحازم هو السبيل الوحيد، في لحظته على الأقل، للحفاظ على أمن البلد واستقراره ووحدته. إلا أنه لم يكف. كل ما فعله، هو أنه دفن الجمر تحت الرماد.
التهديد الإيراني يأتي من مصدرين. الأول، أن يكون عملا عسكريا مباشرا، وهذا أمر مستبعد لأن النظام الإيراني أجبن من أن يفعل ذلك الآن. فقد جرب هذا الخيار من قبل، في الحرب ضد العراق عام 1980، فكانت العواقب وخيمة عليه.
والثاني، أن يأتي من تحريك عصابات “الغلمان” (وهذه هي التسمية التي كان يستخدمها الشاه الصفوي إسماعيل، لتحريك أتباعه)، للقيام بأعمال تحريض وتخريب وتهديد الأمن وزعزعة الاستقرار.
وتحسب إيران أن هذا السبيل يوفر لها الحماية، بأن يجعلها تقف في الظل، فلا تكون مسؤولة مباشرة عما يرتكبه غلمانها. كما يوفر لها أدوات تدخل تتسع كلما تراجعت قوى الصد، الاجتماعية قبل السياسية والأمنية.
المشروع الطائفي، يبدأ دعائيا بغطاء مذهبي. وعندما يتراخى المجتمع في فضح هذا الغطاء وتعرية أسسه المخالفة للإسلام، فإن الغلمان ينبتون كما ينبت الفطر في الظلام. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يتحولوا إلى ميليشيات، مسلحة أو غير مسلحة، تقدم الخدمات لجمهورية الخميني ولحرسها الثوري.
المجتمعات العربية التي عرفت هؤلاء الغلمان، لم تتمكن من مواجهتهم على نحو صحيح. فالتاريخ لم يُقرأ، والعقيدة الإسلامية ظلت نهبا للبدع والافتراضات التي لا أساس لها، ولم يؤد المعنيون من المؤرخين وأهل الفقه دورهم في مواجهة الأضاليل التي يستند إليها المذهب الصفوي. الأمر الذي ترك فراغا هائلا، لم تتمكن السلطات من مواجهته إلا بالحلول الأمنية.
وهذه سرعان ما تحولت إلى ضرر، أدى إلى تغذية مزاعم “المظلومية”، وتطوير النواح على مقتل الحسين، إلى نواح ميليشياوي، يستدعي صورة مزيفة من التاريخ، لكي يلقي باللوم على الحاضر. ومن ثم ليؤدي إلى صنع شرخ اجتماعي بين طائفتين، لكل منها قراءة مختلفة للتاريخ. وعلى أساس هذا الشرخ يجري ارتكاب المذابح (بالضبط كما فعل الشاه الصفوي الأول). وهي مذابح تستدعي دوافع الانتقام، ممن لم تكن لهم أي علاقة بصور التاريخ المزيف تلك والتي تم استدعاؤها فقط من أجل أن تكون حافزا للوحشية.
انظر إلى أعمال “التطبير” واللطم بالزناجير، وهي عادات صفوية بالمطلق، ولا علاقة لها بالإسلام بالمطلق، وستعرف لماذا تمارس بوحشية؟ وما هو الدافع الذي يقف وراء تمثيل سفك الدماء فيها.
هذه كلها رموز. ولكنها حوافز. والغاية منها هي استثارة دوافع القتل والثأر من الذين يقعون تحت أنياب المطبرين واللطّامين. وهو شيء يتكرر كل عام، لكي يجدد الحوافز الوحشية ذاتها.
الغلمان لا يحتاجون أن يكونوا أكثر من مطايا تلك القراءة الغبية للتاريخ، فهم أنفسهم لا يقرؤون. ولو أنهم كانوا ولو على قدر ضئيل من المعرفة بالحقائق، فإن أيديهم سوف ترتجف، وهذا مما لا يناسب ألوية الحرس الثوري الإيراني، ولا يناسب المشروع الصفوي ككل.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بالبحرين، فهناك على الأقل، ما يمكن لمواطني هذا البلد أن يعرفوه ويشاهدوه ولو عن بعد. على الأقل يمكنهم النظر إلى ما ترتكبه ميليشيات الغلمان في العراق وسوريا ولبنان واليمن ليعرفوا طبيعة النموذج الذي تقترحه الغلمانية الصفوية عليهم.
لا تملك إيران نماذج أخرى. وهي جميعها نماذج دمار وسفك دماء وفشل اقتصادي وخراب اجتماعي. والغلمان هم أدواتها في كل مكان. ودائرة الثأر التي ظلت تطحن الملايين من الضحايا، ما عاد بوسعها أن تتوقف على نماذج القتل والتصفيات وأعمال الاغتصاب والاعتقالات العشوائية، ولكنها امتدت لتؤدي واجب تدمير البنيان الاجتماعي والمؤسسي والأخلاقي، بإقامة نظام مواز على أسس الفساد والولاء المطلق للشاه الصفوي (الولي الفقيه).
والأمر لا يتعلق بقراءة مضادة للتاريخ، أو بابتداع تاريخ مزيف، وإنما بثقافة تخريب، تجد في الفقه الصفوي ما يبررها. والغلمان يؤمنون بها بوصفها سبيلهم للثأر ولإثبات الولاء للمهدي المنتظر (الإمام ونائبه).
ثقافة التخريب هذه لا تعترف بسيادة الدول، وتتعمد الاستهتار بها، والتدخل في شؤونها الداخلية، طالما وجدت فيها أذرعا لنشر المذهب الصفوي.
هذا وحده يكفي للبرهان على أن إيران تحولت إلى نظام عدوان وحرب، ولم تعد دولة طبيعية منذ أن تولاها الخمينيون. وهي إذ تتجاوز الأعراف والقيم والقوانين الدولية، فلأنها لا تعترف بها من الأساس. وهو ذاته المنطلق الفقهي الذي يعتمده تنظيم داعش. ولم يكن ذلك التوافق مجرد صدفة. فكل التنظيمات الإرهابية الإسلامية تأخذ بالمبدأ نفسه، بصرف النظر عن كل الفوارق المذهبية في ما بينها. فكلها عابرة للحدود، وكلها لا تعترف بسيادة الدول، وكل أعضائها لا يدينون بالولاء لأوطانهم.
الخمينيون لم يكتفوا بتدمير الدولة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فقد دمروا الدولة في إيران نفسها، عندما حولوها إلى نظام ميليشياوي، وسعوا، وفقا لمبدأ “تصدير الثورة” الذي وضعوه في دستورهم، إلى نقل التجربة الميليشياوية إلى الغير أيضا. فكانت النتيجة مجموعة من الدول التي يسودها الخراب والفشل.
الوحشية التي عرفها العراقيون والسوريون من أعمال غلمان الولي الفقيه، لم تناظرها أي وحشية في التاريخ، بما في ذلك وحشية التنظيم الشقيق للحرس الثوري، داعش. تلك الوحشية التي حولت مجموعات من البشر إلى ذئاب للقتل والاغتصاب والتهجير والتدمير، انتهت إلى أنها جعلت الملايين يرزحون تحت نير الشقاء والفقر والحرمان والإذلال.
وهو نير لم ينج منه، حتى أبناء الطائفة التي ركبوا على ظهرها. وما كان ذلك إلا من طبائع الفساد والسطحية والانحطاط الأخلاقي الطبيعي لأولئك الغلمان، وما كان ذلك إلا امتثالا لطبيعة النموذج الذي ساد في إيران نفسها.
التغطيات كثيرة، والشعارات أكثر. وتحرير فلسطين واحد منها. ولكنها جميعا جزء من الزيف الذي يتم توظيفه لخدمة التخريب.
انظر في الحقائق الإحصائية المجردة، وستعرف أن إيران لم تقدم قتيلا واحدا من أجل فلسطين، ولكنها قتلت الكثيرين من العرب باسم سعيها لتحرير فلسطين.
هذه الحقائق تثبت أيضا أن إسرائيل نفسها لم ترتكب بحق الفلسطينيين جرائم بمقدار ما ارتكب نظام الولي الفقيه بحق العراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين. احسب، لترى من هو المجرم الأكبر، ومن هو الذي سبى وأثكل وشرد ودمر وأفسد واغتال واغتصب.
ما تهدد به إيران البحرين، إنما يقصد أن يضيف بلدا آخر إلى قائمة السبي والخراب والتدمير. كيف يمكن للبحرين أن تواجه هذا التهديد؟
سؤال يجدر التأمل فيه. ولكن لو أمكن تحرير التاريخ من بطش الزيف، فتلك سوف تكون بداية عاقلة.