إياد العنبر
الصراع بين النخب السياسية التي خسرت مواقعها في السلطة ومن ثم نفوذها السياسي، وبين النخب الجديدة الصاعدة التي حلت محلّها، من أهم القضايا التي بحثتها الأدبيات السياسية المتخصصة بتحليل ودراسة مشاكل التحوّل الديمقراطي وأهم تحدياته، لأنها تبدأ منذ تغيير شكل نظام الحكم من دكتاتوري وشمولي، وتستمر حتى بتطبيق التداول السلمي للسلطة. إذ تقود عملية التغيير إلى إنتاج مأزق سياسي وتكون أعراضه المرضية سببا رئيسا للعنف ولعدم الاستقرار، وهو يكون نتيجة لثلاث متغيّرات:
أولها، توسّع الاتجاهات السياسية: فالتغيرات الاجتماعية التي تفرضها الدمقرطة تخلق اتجاهات لمجموعات سياسية واسعة مع مصالح متباينة غير منسجمة، وعندما تكون الديمقراطية بدائية وجزئية، فالانتشار الواسع لتحشّد المصالح الاجتماعية يجعل تشكيل تحالفات سياسية ثابتة صعبا للغاية.
وثانيها، المصالح غير المرنة والآفاق قصيرة المدى: فالمجاميع التي يهددها التغير السياسي بسبب التحوّل الديمقراطي، من ضمنها النخب السياسية ذات النفوذ، غالبا ما تعبّر عن خياراتها باتخاذ مواقف غير مرنة (متصلّبة جدا) تجاه مصالحها.
أما المتغير الثالث فهو التنافس على التحشيد الجماهيري: في فترة التحوّل الديمقراطي تكون لدى مجاميع النخب المهددة بالخسارة تحشيد تحالفات مع جماهيرها على أساس الأطر التقليدية، لتشكيل أجندة سياسية توظَّف في المساومات السياسية.
في العراق تأخر كثيرا بالظهور إلى السطح صراعُ النخب الخاسرة والنخب الصاعدة، إذ بدأ مع ظهور نتائج انتخابات 2018، بيد أن قوة وهيمنة القوى السياسية التقليدية تَمكن من احتواء القوى الجديدة الصاعدة؛ لأنها بالأصل لم تكن تملك مشروعا سياسيا سوى الرغبة بتعزيز نفوذها العسكري بالمناصب السياسية.
ومن ثم كان مجيء عادل عبد المهدي لرئاسة الوزراء لضمان هيمنة القوى السياسية التقليدية، فهو ينتمي للمنظومة السياسية التي لم تتمكن من مغادرة منطق الشخصنة وتحالفات المعارضة قبل تغيير النظام. والتي تمارس الحكم بمنطق الأوليغارشيات السياسية رغم أنها وصلت للسلطة عن طريق الوسائل الديمقراطية.
ولذلك، عجزت عن استيعاب متغير سياسي جديد بات يفرض نفسه بحضور وتفاعل قوي، ألا وهو حركة الاحتجاجات التي بدأت في أكتوبر من العام الماضي. فالتظاهرات كانت تحمل نسقا احتجاجيا ومطلبيا يختلف عن الأشكال السابقة للاحتجاجات. إذ أنّها حددت قوتان كانت الأبرز بخسارة نفوذها: الأولى هي القوى التقليدية، والثانية هي القوى التي وصلت إلى مراكز التأثير بصنع القرار السياسي من خلال نشاطها العسكري، وهي مجموعة الفصائل المسلحة التي شكلت قائمة الفتح، والتي كانت انتخابات 2018 بوابة دخولها إلى نفوذ السلطة.
لكن قوى السلطة وأحزابها ظلَّت تنظر للحراك من خلال منظورها الضيّق باعتباره فورة شعبية مصيرها الفتور والاختفاء من الساحات! وهذا النمط من التفكير هو أساس المشكلة وكان يعبّر عن مأزق بالتفكير السياسي الذي يتعامل مع تطورات سياسية جديدة بحلول تقليدية.
بالنتيجة من قرأ حركة الاحتجاجات بموضوعية من بين الطبقة السياسية ووظفها لصالحه هو الذي كسب الفرصة للبقاء في السلطة. لكنَّ القوى التقليدية التي أصرَّت على مواقفها المتصلبة باتت هي الخاسرة، ولذلك تسعى إلى تحشيد زبائنها أو معارضتها لإجراءات الحكومة للتعبير عن مواقفها بخسارة مواقع السلطة.
وفي مقال سابق وصفت وصول مصطفى الكاظمي إلى منصب رئيس مجلس الوزراء بأنّه بداية كسر منظومة الاحتكار السياسي، ورغم الفترة القصيرة من استلامه السلطة، إلا أن ثمّة قوى سياسية وأخرى تعمل بعناوين مسلحة خارج إطار الدولة لم تتمكن من إخفاء شعورها بتهديد المصالح وتقليص دوائر نفوذها على صنع القرار السياسي.
واعتقد لأول مرة منذ بداية التغيير في 2003، بأن ملامح الصراع تبدأ بين نخب سياسية صاعدة وأخرى خاسرة، ويبدو ذلك واضحا بظهور وجوه جديدة في مواقع الفريق الحكومي تؤشر تفاعلا من قبل شرائح واسعة من الجمهور، لأنه يقدّم مؤشرا على مغادرة حاشية السلطة التي كانت تحافظ على مواقعها رغم التغيرات التي تحصل في منصب رئيس الحكومة.
يسعي الكاظمي إلى تغيير محيط السلطة، وهو البداية نحو تغيير نمط التفكير والتعاطي مع التغيرات السياسية الداخلية والخارجية. وهذا التغيير يعتبر من أهم ديناميكيات التقادم بالممارسة الديمقراطية؛ لأنه يؤشر فعلا خسارة نخب سياسية لمواقع نفوذها التي حصلت عليها ليس عن طريق الكفاءة والخبرة وإنما باعتبارها مناصب توزَّع على حسب القرابة الشخصية من الزعيم السياسي.
لكن هذا التغيير يجب ألّا يكون من دون رؤية ومشروع جديدَين لترسيخ نمط مؤسساتي في إدارة الدولة، وأن يغادر خطيئة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الذي سعى لترسيخ العمل بنمط (الحكومة الموازية) والتي كان فريقها حاشية مقربة من شخصية عبد المهدي.
إلا أن تجاربنا السابقة مع الحكومات لا تجعلنا نفرّط بالتفاؤل، بل تفرض علينا التعاطي بحذر، لا بل بأقصى درجات الحيطة والحذر. فالتغيير بالعناوين والشخصيات لا يعني بالنهاية مغادرة العمل بمنظومة سياسية أنتجت الفشل والفساد والدمار طوال سبعة عشر عاما، وليس من المنطقي اعتبارها قد انهزمت من الجولة الأولى وهي التي رسخت تقاليد بيروقراطية وصفقات سياسية باتت تتحكم في إدارة الدولة ومؤسساتها.
ومن ثم المسؤولية الأولى والأخيرة للكاظمي وفريق حكومته ترسيخ ركائز مشروع التغيير نحو عودة الاعتبار للدولة، وتهيئة الأجواء التي تساهم في تصحيح الانحرافات التي رسختها أحزاب السلطة وزعامتها. وهذا بحدّ ذاته لو تحقق سيكون منجزا تاريخيا لدماء ساحات التظاهرات التي كانت الفاعل الأول والأخير في كسر الاحتكار السياسي وصعود نخب سياسية جديدة للواجهة.