تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الفن القبطي يجتاح طرقات القاهرة مُعيدا إليها ألقها

الفن القبطي تجتاح القاهرة
AvaToday caption
هدفه يتلخص في محاربة القبح والعشوائية، وهو في انتظار أخذ خطوات عملية لتنفيذه على أرض الواقع
posted onJuly 18, 2019
noتعليق

ناهد خزام

فادي عبدالمسيح، مهندس ومصمم غرافيكي مصري شاب قرّر أن يضع تصوّرا جماليا للقبح الذي تبثه الإعلانات التجارية المنتشرة على كامل جدران العاصمة المصرية القاهرة والتي اكتسحت أيضا أحياءها العشوائية.

 ولا يعتمد فادي في مشروعه هذا على تغيير المعالم أو دهن الواجهات، أو حتى وضع تصميم جديد للأماكن، لكنه يسعى من خلاله إلى استثارة الذائقة الجمالية عند الناس عن طريق إحياء الفنون القديمة.

واعتمد الغرافيكي المصري الشاب على العشرات من الأعمال التصويرية المنتقاة من الفن القبطي، وهي رسوم ظهرت مع انتشار المسيحية في مصر.

 وتأثرت على نحو كبير بأساليب التصوير المصري القديم، وانتشرت ممارستها بداية من القرن الرابع الميلادي.

 وكان لها تأثير كبير على تطوّر فن التصوير الغربي، نظرا للاحتكاك المباشر بين مصر وأوروبا عبر مدينة الإسكندرية، والتي كانت ولا تزال تمثل وقتها مركزا هاما للأدب والفلسفة واللاهوت أيضا.

الأعمال التصويرية المنتشرة في شوارع القاهرة أثارت الذائقة الجمالية وعرفت المصريين بجوانب مشرقة في تاريخهم

الأعمال التصويرية المنتشرة في شوارع القاهرة أثارت الذائقة الجمالية وعرفت المصريين بجوانب مشرقة في تاريخهم

ومدفوعا بعشقه للفن القبطي يطمح الغرافيكي الشاب عبدالمسيح إلى محاربة العشوائية والقبح في الشارع المصري بنشر نماذج من هذه الأعمال التصويرية القديمة في شوارع القاهرة لإثارة الذائقة الجمالية من ناحية ولتعريف المصريين بأحد أهم الجوانب المشرقة في تاريخهم القديم. وترجم فادي عبدالمسيح هذا التصوّر بالفعل على هيئة تصاميم غرافيكية جاهزة للتنفيذ على أرض الواقع وعرضها أخيرا في مقر الجهاز القومي للتنسيق الحضاري في القاهرة تحت عنوان “الماضي جمال مفقود”.

ويعتمد مشروع “الماضي جمال مفقود” على إقحام عنصر جمالي وسط عشوائية المكان، “قد يكون الأمر غريبا في البداية أو مقحما، لكنه مع الوقت سيصبح جزءا من المكان”، كما يقول صاحب المشروع، وإذا اعتاد الناس عليه سينفرون من مظاهر القبح المحيطة به.

ولا يهدف فادي إلى التربّح من وراء مشروعه، فكل هدفه يتلخص في محاربة القبح والعشوائية، وهو في انتظار أخذ خطوات عملية لتنفيذه على أرض الواقع، فالأمر يحتاج إلى جهود كثيرة وإجراءات لا يستطيع تحمل أعبائها بمفرده.

الغرافيكي المصري اعتمد على العشرات من الأعمال التصويرية المنتقاة من الفن القبطي، وهي رسوم ظهرت مع انتشار المسيحية في مصر

الغرافيكي المصري اعتمد على العشرات من الأعمال التصويرية المنتقاة من الفن القبطي، وهي رسوم ظهرت مع انتشار المسيحية في مصر

وهو يرى أن بالإمكان الاستعانة بنفس الفكرة في الترويج السياحي بتنفيذها بالقرب من الأماكن الأثرية المعروفة بالآثار القبطية، كأحياء مصر القديمة وغيرها من الأحياء الأخرى التي تحمل عبقا تاريخيا.

الفن القبطي

كما يطمح أيضا إلى تضمين كل صورة أو لوحة من اللوحات التي يتم تنفيذها على رمز رقمي يمكن للناس من خلاله الولوج إلى موقع إلكتروني للتعريف بالعمل عن طريق هواتفهم الشخصية، وهي فكرة تم تنفيذها بالفعل في مشروع “عاش هنا” الذي تتبناه وزارة الثقافة المصرية للتعريف بالأماكن والبنايات التي كان يسكنها مشاهير مصر من الفنانين والعلماء والساسة، وهو مشروع لقي ترحيبا وتجاوبا كبيرا من قبل الناس.

ومعلوم أن أكثر ما تعانيه مدينة كبيرة ومترامية الأطراف مثل القاهرة هو التشوّه العمراني الذي يزحف على معالم المدينة، يضاف إليه عامل آخر يسهم في تأكيد هذا القبح البصري، والمتمثل في انتشار الإعلانات التجارية على نحو واسع في كل شارع أو زاوية.

ويبدو هذا الأمر أكثر وضوحا في الأحياء الواقعة على أطراف القاهرة، أو ما بات يُعرف بالعشوائيات، وهي أحياء ظهرت معظمها خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية نتيجة للهجرة المستمرة من الريف إلى المدينة، وخاصة القاهرة، ما أدى إلى تآكل معظم الرقعة الزراعية المحيطة بالعاصمة المصرية وتحوّلها إلى أحياء سكنية مكتظة بالسكان.

وتستبيح الإعلانات التجارية فضاء المدينة بقسوة دون حسيب أو رقيب، فنظرة واحدة إلى الطرق المحاذية للنهر تشي بذلك، حيث تنتصب على جانبي الطريق العشرات من المساحات الإعلانية التي كادت تحجب المتنفس الوحيد لسكان المدينة.

إعلانات منتشرة في كل مكان، تحتل أسطح المنازل وجوانب الطرق والجدران، وهي في معظمها إعلانات رديئة التصميم وقبيحة الألوان. يضاف إلى هذه الإعلانات التجارية المنتشرة في كل مكان نوع آخر من الإعلانات الدعائية المنتسبة إلى مراكز الدروس الخصوصية، والتي تتخذ عادة شكل كتابات ورسوم ملونة على أسوار الحدائق والبيوت، وهو نوع من الإعلانات بات منتشرا على نحو لافت في الأحياء العشوائية الواقعة على أطراف المدينة خلال السنوات العشر الماضية.

 زاد من انتشاره لجوء معظم الأسر المصرية إلى الاعتماد على الدروس الخصوصية كبديل تعليمي للمدارس الحكومية التي تعاني بدورها من كثافة غير معهودة، حتى تحوّلت تلك المراكز مع الوقت إلى اقتصاد مواز تُضخ فيه مليارات الجنيهات التي تستنزف ميزانية الأسر المصرية.

وتلجأ هذه المراكز عادة إلى تكليف أحد الخطاطين بكتابة اسم المركز مع ذكر المدرسين التابعين له، وانتشرت على هذا النحو الكثير من التعبيرات التي تحوّلت إلى مادة للتندّر والسخرية بين الطلبة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي أيضا، تغذيها تلك العبثية التي يتم بها صوغ تلك الإعلانات، والتي تتبنى عادة تعبيرات فكاهية مثل “ملك الفيزياء” أو “أسطورة اللغة العربية” أو “قنبلة الكيمياء” وغيرها من التعبيرات المُشابهة.

مشاريع كثيرة تم تدشينها خلال السنوات الأخيرة لمواجهة هذه العشوائية المنتشرة في الشارع المصري، يساهم ما يعرف بجهاز التنسيق الحضاري بجزء كبير منها، وهو جهاز حكومي مهمته الحفاظ على التراث المعماري المصري من التشوّه، وحماية الشكل العام للمدينة.

غير أن معظم الجهود المبذولة في هذا الصدد عادة ما توجه إلى المناطق العمرانية التي تتمتع بخصوصية معمارية، وهي في أغلبها أحياء راقية، كحي الزمالك أو المعادي أو وسط القاهرة، دون النظر إلى أطراف المدينة الغارقة في العشوائية والقبح، ليأتي أخيرا مشروع فادي عبدالمسيح “الماضي جمال مفقود” ملطفا قدر الإمكان من هذا القبح المستشري.

كاتبة من مصر