تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

النظام الإيراني وسياسة التهجير والتهميش

سيول غرقت مدن بكاملها
ولكن الأحداث كشفت عن أنه رغم غرق معظم البلاد في مياه السيول والفيضانات، فإنه لم تكن هناك أي إشارة على وجود سلطة مركزية لمد يد العون للأقاليم المتضررة، وسادت فوضى عارمة
posted onApril 29, 2019
noتعليق

د. كريم عبديان بني سعيد

لا شك في أن إيران تواجه كثيراً من المشكلات، ولكن المشكلة الأساسية تكمن في سلطة شديدة المركزية تتمحور حول العاصمة طهران، وكان تأسيسها سمة من سمات الأرستقراطية البيروقراطية في القرن الماضي عند إنشاء «دولة الأمة» في مطلع الربع الثاني من القرن العشرين.

وعليه؛ فعندما تحدث كوارث مثل الزلازل والفيضانات، فإن عدم كفاءة الحكم المركزي والفوضى في إدارة الأزمات، يطفوان على السطح.

وهذا ما حدث بالضبط في العام الماضي عندما دمر زلزال بقوة 7.2 على مقياس ريختر منطقة كرمانشاه الكوردية غرب البلاد، حيث تقطعت الطرق بالأهالي المنكوبين، وبقوا بلا مأوى لأسابيع عدة، ووقف المسؤولون المحليون دون أن يحركوا ساكناً وهم ينتظرون المساعدة من المركز.

ومثال آخر على ذلك؛ الفيضانات والسيول الأخيرة التي ضربت معظم أراضي إقليم عربستان (الأحواز)؛ الذي تطلق عليه السلطات اسم «خوزستان»، ومحافظات: غلستان التركمانية، وفارس الفارسية، ولورستان، وجيلان، والبختياري.

منذ شهر ونصف، شهدت 26 محافظة من أصل 31 سيولاً وفيضانات غير مسبوقة في التاريخ الإيراني، مما تسبب بخسائر بشرية ومادية كبيرة.

والإقليم الذي تعرض لأكبر الأضرار هو إقليم الأحواز العربي في جنوب غربي إيران، مقارنة بالأقاليم الأخرى. وفي جميع الحالات، فإن الهوة بين المحافظات المتضررة والمركز كانت عميقة للغاية.

وكانت الفيضانات بدأت تزامناً مع الاحتفالات برأس السنة الإيرانية (النوروز) الذي يصادف 21 مارس (آذار)، وتستمر الاحتفالات والعطلات لما بين أسبوعين وثلاثة أسابيع.

ولكن الأحداث كشفت عن أنه رغم غرق معظم البلاد في مياه السيول والفيضانات، فإنه لم تكن هناك أي إشارة على وجود سلطة مركزية لمد يد العون للأقاليم المتضررة، وسادت فوضى عارمة، ولم يتضح من يدير الأزمة.

في إيران، تعدّ العاصمة طهران قلب وعقل البلاد؛ بما أنها تشكل المركز السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأكاديمي والصناعي والتجاري والمصرفي للبلاد.

ومن الناحية الإدارية، هناك 31 محافظة؛ يرأس كل منها حاكم يعيّنه وزير الداخلية، وعادةً هؤلاء الحكام ليسوا من السكان الأصليين المحليين، ولهذا السبب تعاني الشعوب في إيران كثيراً من المركزية الشديدة، خلافاً للمراحل التاريخية التي سبقت تأسيس «دولة الأمة».

منذ القرن السادس عشر؛ خصوصاً خلال حكم السلالة القاجارية الذي امتد 130 عاماً، كان يطلق على إيران اسم: «ممالك إيران المحروسة»، فإطلاق «الممالك» على إيران إن دلّ على شيء؛ فمما يدل عليه أنه «حكم لا مركزي؛ فيدرالي تقليدي، يلامس الاستقلال الفعلي».

وكانت البلاد مؤلفة من 6 ممالك تتمتع بحكم محلي ذاتي واسع السلطة، وكانت شبه مستقلة، وهي: خراسان ولورستان وكوردستان وعربستان وأذربيجان وجيلان. أما المناطق الأصغر فكانت ولايات تتمتع بحكم ذاتي وبسلطات أقل من «الممالك» التي تمت تسميتها وفقاً لسكانها الأصليين. ومنذ عام 1926، قرر رضا شاه والقوميون الفرس الذين ساهموا في تكوين «دولة الأمة» ذات النزعة الآرية، تغيير اسم «عربستان» إلى «خوزستان» بعد إسقاط الحكم العربي.

وهكذا سعى رضا شاه إلى تقليد مصطفى أتاتورك، لإنشاء دولة موحدة تتبنى لغة واحدة وثقافة واحدة وتاريخاً واحداً، وهي «دولة الأمة الفارسية»؛ في حين لا يشكّل الفرس إلا 30 في المائة فقط من السكان.

وهكذا على مدى المائة عام الماضية، تكوّنت سلطة شديدة المركزية تعمدت تهميش الشعوب غير الفارسية، وجعلتهم فقراء، وأبعدتهم عن الحكم الأرستقراطي في طهران.

 طبعاً هذا لا يعني أن الشعب الفارسي لا يعاني هو أيضاً من الاضطهاد؛ بل إن الشعوب غير الفارسية تعاني اضطهاداً مزدوجاً؛ سياسياً وثقافياً، مقارنة بالفرس المضطهدين أيضاً.

في أعقاب الزلزال الذي ضرب المناطق الكوردية العام الماضي، والفيضانات التي غطت تقريباً جميع أنحاء البلاد في بداية هذا العام، تضررت مختلف الشعوب في إيران، ولكن المناطق التركمانية والعربية الأحوازية هي الأكثر تضرراً مقارنة بالمناطق الأخرى، حيث غمرت المياه مئات المدن والقرى الصغيرة والكبيرة، ولم تقدم السلطة المركزية أي مساعدة في الفيضانات التي لم يحدث أشد منها منذ ألف سنة؛ حسب خبراء الأرصاد الجوية.

مرة أخرى، لقد ساد التردد، وعدم وجود سلطة، وإعاقة أي حركة نمو من قبل المسؤولين المحلين في منطقة الفيضانات دون موافقة طهران.

وفي الوقت نفسه كانت الناس تكافح لإنقاذ ما تبقى من ممتلكاتها، وكان كثير من كبار المسؤولين في طهران يقضون عطلة العيد خارج البلاد وهم يحتفلون بالنوروز، ومعظمهم كانوا في أوروبا.

وحالياً تدهور الوضع أكثر، وتضرر إقليم الأحواز أكثر، حيث أطلق النظام مياه 4 سدود على أنهار: كارون، والدز، ومارون، والكرخة، ومنع توجيه هذه المياه إلى الهور العظيم (الحويزة) وهور الفلاحية المجففين.

وفي هذه الظروف، أول من قام بالتجول في المناطق المنكوبة هو الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» ومعه جنرالات آخرون، ومن غير المعروف لماذا هو؛ وليس الرئيس حسن روحاني أو وزراء الداخلية والماء والكهرباء أو نواب مجلس الشورى، من قام بزيارة المنطقة.

وقد أثار تفقده المناطق التي غمرتها المياه، الفرضية القائلة بأن «الحرس الثوري» يقف خلف الفيضانات، وأنه قام بفتح السدود بهدف تنفيذ سياسة التطهير العرقي والاستيلاء على النفط وأراضي العرب وطردهم بشكل قسري من موطنهم، لأن «الحرس» هو الذي يتحكم في الثروة النفطية التي يضمها الإقليم.

في خضم الفيضانات، ظهر قاسم سليماني جنباً إلى جنب جنرالات آخرين، ولم يرافقه حتى حاكم إقليم الأحواز (خوزستان)، والهدف هو الحفاظ على المنشآت النفطية وإبعاد العرب عنها... لذا؛ بدلاً من التضحية ببعض آبار النفط في الهور العظيم، قرروا إغراق المدن والقرى العربية وطرد سكانها الأصليين بالقوة، وقد يتم نقلهم إلى محافظات أخرى غير عربية، ولكن ليس من الواضح من المسؤول أو أي جهة قررت ذلك!

يذكر أنه بصرف النظر عن النفط، فإن إقليم الأحواز ذا الأغلبية العربية فيه 4 أنهر؛ هي: كارون والكرخة والدز والجراحي، وهناك عدد من السدود الكبيرة على هذه الأنهر.

سياسة التطهير العرقي للعرب ليست بالأمر الجديد في إيران. المؤرخ الأميركي المعروف ويليام استرنك، في كتاب «سلطة الشيخ خزعل بن جابر وقمع إمارة عربستان: دراسة لدور الإمبريالية البريطانية في جنوب غربي إيران»، يقول إنه عند اكتشاف النفط (عام 1908) كان العرب يشكلون 98 في المائة، والبوشهريين غير العرب اثنين في المائة من السكان، ولكن بدأ طرد العرب الأحوازيين بقوة في عام 1941.

بعد استيلاء رضا شاه على إمارة الشيخ خزعل وقمع كثير من الانتفاضات، قام في عام 1941 بنقل أكبر خمس قبائل عربية إلى إقليم فارس الفارسي.

ولا تزال هذه القبائل تسمى «قبايل الخمسة» ومنها: «الجبارة» و«شينابي» و«الخزيلي» و«الكوتي».

واستمر الشاه محمد نجل رضا شاه على خطى والده في القضاء على الوجود العربي، حيث طرد كثيراً من القبائل العربية إلى خراسان ويزد، وبدأ ببناء مستوطنات في شمال إقليم الأحواز ونقل الفرس إليها من مدينة يزد، وأطلق على المستوطنات اسم «يزد نو»؛ أي «يزد الجديدة»، حسبما ذكرت البروفسورة بجامعة كاليفورنيا نكي كيدي، المختصة في تاريخ إيران.

وبعد أيام من سقوط الشاه في عام 1979، طلب العرب (السكان الأصليون) من غير العرب المستوطنين العودة إلى موطنهم، وهكذا انتهت تلك المستوطنات.

وخلال حكم «الجمهورية الإسلامية»، وبموجب الوثيقة السرية الأولى التي تسربت من أجهزة النظام بعد سنتين من انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية تكشّف أن قادة الجيش و«الحرس الثوري» الإيراني طلبوا من الدكتور كلانتري، وزير الزراعة آنذاك، الاستيلاء على ملايين الهكتارات من الأراضي العربية.

ثم في وقت لاحق خلال حكم خاتمي؛ أيضاً حصلنا على وثيقة تؤكد ذلك، وتدعو إلى تهجير العرب، وهناك وثيقة أخرى تسربت من وزارة الداخلية تقدم توجيهات في 45 صفحة بشأن القضاء على الوجود العربي.

ووفقاً لهذه الخطط تقوم السلطات المحلية بالتنفيذ. ولكن يأتي الرد الجماهيري بالرفض والتظاهر والاحتجاج، حينها تلقي السلطات المحلية بالأمر على السلطة المركزية؛ وعندما تذهب الوفود إلى العاصمة طهران فإنها تلقي باللوم على السلطة المحلية... والوضع مستمر على هذه الشاكلة منذ نحو قرن.

ناشط حقوقي ومهتم بقضايا إيران