من الكتب المهمّة ذات النفاذ في الرؤية والكشف، بحثٌ في النقد الأدبي من الوجهة الفلسفية للكاتب والاكاديمي الأميركي روبرت زاريتسكي (1955) بعنوان "حياة تستحقّ أن تُعاش: ألبير كامو والبحث عن المعنى"، صدرت ترجمته الى العربية عن دار سطور، وأنجز الترجمة إبراهيم قيس جركس.
قبل الحديث عن الكتاب التحليلي الذي اعدّه الباحث زاريتسكي عن أعمال كامو، وسعي الأخير في إثر المعنى، لا بدّ من كلمة عن ذلك الأديب والفيلسوف الفرنسي الذي حاز جائزة نوبل للعام 1957، عن مجمل أعماله، وكان لا يزال شاباً بمعايير الجائزة، مجايله الوحيد روديارد كيبلينغ.
ولد ألبير كامو عام 1913، في موندوفي في الجزائر، قرب عنّابة، من أب يدعى لوسيان كامو، قتل وهو لا يزال طفلاً، في الحرب العالمية الأولى، وأمّ أسبانية تدعى كاترين هيلين سينتِس، وكانت أمّية، فربيَ بين جدّته وأمه وخالة له، الى جانب أخيه، في بيئة متواضعة، بل فقيرة. أصابه مرض السلّ باكراً، ولازمه طوال حياته القصيرة، إلى أن مات في حادث سير عام 1960.
ويحسب البعض أنّ أصله الجزائريّ، وتجربة عيشه في أوساط الجزائريين ومعرفته تقاليدهم وعاداتهم، هي التي حفّزت الكاتب والفيلسوف على اتخاذ مواقف مغايرة لزملائه المناضلين معه في المقاومة ضد النازية، كمثل موقفه المؤيّد لمنح الجزائريين استقلالهم، ورفضه الانصياع لتوتاليتارية الحزب الشيوعي السوفياتي، وانحيازه الواضح للتراث الفلسفي اليوناني، باعتباره منهلاً فكريا لا ينضب.
أن يكتب مؤرّخ (زاريتسكي) عن أديب وفيلسوف، يستدعي من الأوّل أن يكون على بيّنة مما يكتب عنه، فكراً وفلسفة وسيرةً وتأريخاً وتحليلاً لخطاب الكاتب في ما تركه من أعمال منشورة ومخطوطة. وهو يتلخّص هنا بتقصّي أهمّ الأفكار التي تفرّد كامو بابتكارها، أو بإكسابها دلالات خاصّة تنسجم مع رؤيته الفكرية والأخلاقية، وربطها بالسياق التاريخي الذي نشأت فيه. أما وضع الكتاب تحت هذا العنوان "حياة تستحقّ أن تعاش؛ ألبير كامو والبحث عن المعنى" فهو من قبيل إدراك الكاتب المحلل أنّ الأخير لم ينِ يطارد معنى حياته، ويصوغ رؤيته الفكرية من خلال توالي أعماله التي تجيب عن أسئلته في الوجود والعبث والسعادة والقياس، والإخلاص، وغيرها. ولو تسنّى لكامو المزيد من العمر لكانت أسئلته والأجوبة ناهزت المئات.
في الفصل الأوّل من الكتاب يعالح زاريتسكي قضية العبث، في أعمال كامو ولا سيّما كتابه "أسطورة سيزيف"، فيطرحها من وجهة نظر الإنسان المعاصر، والمدرك هويّته الفردية، والساعي الى استخلاص معنى وجوده، بل معاني أفعاله ونشاطاته في هذا العالم، وسط المهالك والمصاعب الجمّة التي تفوق أحياناً قدرته على الاحتمال. ولئن افتتح كامو كتابه السالف بمقالة عن الانتحار على ظنّ أندريه مالرو، وزير الثقافة إبان حكم شارل ديغول، الذي أخطأ في الاستدلال، فإنّ الكاتب يورد الانتحار على أنه ردّ محتمل من الكائن الذي يشلّه العبث، وغياب المعنى، و "صمتُ العالم المطبِق واللامعقول" (ص:26)
ولو تتبعنا المظاهر التي نسبها الكاتب زارتسكي الى العبث، استناداً الى قراءته كتاب "أسطورة سيزيف" لكامو، من مثل الحروب، والفقر، والاضطهاد، والمرض، ولا مبالاة العالم، وغياب المعنى، وهي جميعها أدركها كامو، وذاق مراراتها غالباً وحده، ومع زوجته أحياناً، لخلصنا أن العبث يكاد أن يكون، لديه معادلاً للشر، أو العائق الذي يحول دون بلوغ الإنسان وحدته، وتحقيق سعادته المبتغاة."بؤسُ هذا العالم وعظَمته: أنهُ لا يقدّم حقائقَ، بل مجرّد مواضيع للحبّ. العبثُ ملكٌ، والحبّ ينقذنا منه" (ص:80)
أما الحاجة الى الأسطورة لدى كامو، على ما يعلل زارتسكي، فهي من أجل أن يصطنع لنفسه وعياً مندهشاً بذاته، في قلب الوجود البشري. ومردّ هذا الاندهاش رغبة الكائن في مجابهة العالم الذي يتنكّر للمعنى، ويركن إلى اللامبالاة الجامدة. وبناء على ذلك لا تكون العبثية سوى حالة مستقلّة بذاتها، ولا تنوجد في العالم، وإنما تنبعث من الهوّة التي تفصلنا عن العالم الصامت.
في الفصل الثاني من الكتاب، يواصل زارتسكي عرض القضية الثانية المشار اليها أعلاه، وهي الصمت، يحمله على ذلك اليقين، توالي حضور الصمت، في أعمال كامو، وفي سردياته المحيلة على سيرته الذاتية، وتكرار الكلمة - المفتاح (الصمت) على نحو لافت، وفقاً للمنهج المعجمي -الدلالي المعروف. فإذا يُستدلّ على الصمت من خلال قصة المرأة الحبلى، التي تعاني آلام المخاض وهي في العربة، و"تبكي بصمت". ثم عبر قصة اعترافات القديس أوغسطينوس، المولود في طاغاست من اعمال الجزائر، وفيها يروي كيف استجوب أوغسطينوس الإله عن العالم وعن نفسه، إلاّ أنه لم يلق منه سوى الصمت. وكذلك يروي زارتسكي، نقلاً عن أعمال كامو الروائية، كيف أنّ بطل رواية كامو "جاك كورميري" يتساءل عن ماضيه، فلا يجد سوى الصمت يغلّف حادثة ولادته، والصمت يحيط بموت والده الذي قُتل في المارن، عام 1914، وكان لا يزال ابنه في عامه الاوّل. وفي هذا تحوير من سيرة الكاتب الشخصية الى البطل في روايته التي صدرت بعد وفاته، ولم يتح له استكمالها، وهي بعنوان "الإنسان الأوّل". إذاً هو الصمت الذي يتعاظم لديه ليصير "صمت العالم" الدالّ على امتناعه عن الإصغاء الى الآخر، وإن "ساد الصمت فأين نجد المعنى؟".
في الفصل الثالث يعرض الكاتب روبير زارتسكي لمفهوم القياس، المستخلص من أعمال كامو الروائية والمسرحية، ومن آرائه المدوّنة في مذكّراته للعام 1942. يقول فيها: "تعرضُ كاليبسو (حورية استبقت عوليس سبع سنوات على جزيرة) على عوليس الاختيار بين الخلود والأرض التي وُلد فيها. لكنّه يرفض الخلود. وهنا يكمن المعنى الكامل للأوديسة" (ص:121).
هذا الكلام المقتبس، إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ كامو، المتمرّد على خيارات السوريالية المتطرّفة والداعية إلى اللاوعي واللاعقلانية والفوضى العميمة، والرافض لظواهر الاستبدادية والديكتاتورية المتمثّلة في الحزب الشيوعي السوفياتي، والفرنسي على السواء، عبر كتابه "الإنسان المتمرّد" من دون أن يأبه لاعتراض أندره بريتون وجان بول سارتر وغيرهما، قصد إلى تبنّي الفكر الأسطوري وجعله قياساً لفعل الكائن البشري الواعي والمدرك أبعاد مساهمته الإبداعية أو العادية. وينقل الكاتب زارتسكي في هذا الشأن قوله: "يرفض بطل الأوذيسة "الألوهية (التألّه) من أجل مشاركة نضالات ومصير كلّ إنسان. وإننا يجب أن نختار إيثاكا، الأرض الوفيّة، والفكرة الجريئة القنوعة، والعمل الواعي... في النور، يظلّ العالم حبّنا الأوّل والأخير" (ص:121).
لكنّ هذا القياس والاقتباس عن الأسطورة لا يعنيان أن يتخلّى الكائن الفرد عن نضالاته في هذا العالم؛ وإنما وجدنا كامو، على ما فصّله زارتسكي، يسارياً قريباً من الطبقة العاملة، ومناصراً لحرية الشعوب، ولا سيما حرية الشعب الجزائري ومؤيداً لاستقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي، على الرغم من حسبانه من "الأقدام السوداء"، كناية عن الفرنسيين المولودين في الجزائر.
ولا يزال كامو حتّى يوسّع الفكر الأسطوري تحت عباءة بروميثيوس، فيشمل به بلاد المتوسّط، جنوبه وشماله على السواء، ومن أجل أن يوازن الصراع الدرامي القائم بين بروميثيوس والإله زيوس، مع الصراع الحقيقي (السياسي) بين أهل الجزائر والسلطة الفرنسية، بيد أنّ ثمة أموراً كثيرة متقاطعة بين الطرفين، ومشتركة. "إنّ شمال إفريقيا واحدة من البلدان القليلة التي يعيش فيها الشرق والغرب جنباً الى جنب. وهناك، عند التقاطع بين الطريقة التي يعيش بها شخص إسباني أو إيطالي على أرصفة مدينة الجزائر، والطريقة التي يعيش بها العرب من حولهم." (ص:127).
في الفصلين الباقيين يعالج الكاتب زارتسكي مفهومين عزيزين على كامو، ولصيقين بشخصه كما يتبدى لاحقاً؛ فالإخلاص عنده يعني "الفضيلة الوحيدة التي تجعل الفضائل الأخرى ممكنة" (ص:149). هي إصرار داخليّ، على ما تراءى لمحلل "الغريب" و"الرجل الأول" زارتسكي، على التمسّك بالقيم الإنسانية الكبرى، مثل الرحمة، والعدالة، والمسامحة. وكان باسم هذه القيم وبدعوى الإخلاص لها، رفض العنف حتى الثوري منه، ورفض قانون الإعدام، وواجه الظلم حتى الحاصل لدى الفرنسيين مواطنيه ، ومقت القساوة باعتبارها "أم كل الشرور". يقول: "أنا رجل عاديّ بمقتضيات القيَم التي يجب أن أدافع عنها وأوضحها اليوم هي قيمٌ عادية ..." (ص:164).
وفي الفصل نفسه مقارنة وافية بين كامو ومونتاني، الكاتب النهضوي الإنسانوي الفرنسي (1533-1592)، ولا سيما مواقف الرجلين الإنسانية، وتذكير بتأثّر كامو بالفيلسوفة سيمون فايل (1927-2017) ولا سيما خطاباتها الأولى.
وفي أي حال، يعتبر الكتاب الذي أعده الباحث الأميركي روبير زارتسكي إحدى الخلاصات الناجحة لتحليل خطابات الأدباء، وربط أفكارهم بسياقها التاريخي، على نحو ما أضاء على نتاجات ألبير كامو.