دأب الباحث الفرنسي ميشال ديمورجه على معالجة موضوع تراجع قراءة الكتب بعامة، والكتب الكلاسيكية بخاصة لدى جيل الشباب، في مقابل انتشار هائل للشاشة وصورها وعالمها الافتراضي في الحياة اليومية. وقد نشر ديمورجه المتخصص بعلم الأعصاب ومدير برامج بحثية في "المعهد الوطني الفرنسي للصحة والأبحاث الطبية"، سلسلة من المقالات والكتب العلمية تناول فيها الآثار الضارة للشاشات والهواتف الذكية وإشعاعاتها على دماغ الأطفال والأولاد وصحتهم ونموهم المعرفي وسلوكهم الاجتماعي، كتأخر النطق والضعف في التركيز والتعبير عن المشاعر أو إيصال المعلومات والعلاقة مع الآخرين.
وبعد كتابه "مصنع المعتوه الرقمي- مخاطر الشاشات على أطفالنا" (دار سوي 2019) أصدر كتاباً جديداً بعنوان "اجعلوهم يقرأوا- نحو وضع حد للمعتوه الرقمي"(2023)، ضَمنَه مجموعة من الإحصاءات المؤسفة بينت خطورة الشاشات على متطلبات نمو المراهقين سواء الذهنية أو الانفعالية أو الاجتماعية، فضلاً عن تراجع الحركة والتفاعل وتنمية المهارات والقدرات المعرفية، مطالباً بالعودة إلى قراءة الكتب وتذوقها ورد الاعتبار لها وللثقافة بوصفها المنقذ الوحيد من ضلال التكنولوجيا الرقمية.
لكن ديمورجه لم يعن بالقراءة قراءة أي كتاب، بل الكتب الأدبية الكلاسيكية والإنسانيات بصيغتها الورقية والتي يتطلبُ الوقوف على معانيها البحث والتفكير، معتبراً إياها الوسيلة الأنجع للتعليم.
وأما سؤال الكتابين الأول فينطلق من استنتاج مفاده أن أحوال القراءة آخذة بالتردي و"بالاحتضار البطيء"، على رغم ظهور بياناتٍ إحصائية تشير إلى أن عدد القراء من الجيل الجديد يتراوح بين 86 و88 في المئة، وأن الأولاد لم يقرأوا أبداً كما في عصر الإنترنت.
بالنسبة لميشال ديمورجه لا تعير هذه الإحصاءات الاهتمام لوتيرة القراءة أكانت مرة في السنة أو كل يوم، ولا لنوعية الكتب أو النصوص التي تُقرأ، أكانت روائية أو مدونات إلكترونية أو كتب عن الأبراج أو عن وصفات الطعام أو الأزياء، إلخ.، فجوهر المسألة يكمن في تأثير هذه القراءات على اللغة والذكاء والنجاح المدرسي. إذ ليس لكل النصوص نفس الوقع والأهمية.
يخالف خطاب ديمورجه المستند إلى الأبحاث والدراسات العلمية إذاً طروحات بعض التربويين الذين يتصدرون وسائل الإعلام، مبيناً أن قراءة الصحف والكتب الكلاسيكية، لا سيما القصص الخيالية، لها تأثير إيجابي على عقول الشباب. بينما تأثير الهواتف الذكية والشرائط المصورة والحكايات المرسومة ومنصات التواصل الاجتماعي ومدونات الإنترنت يكاد يكون صفراً.
ويشير ديمورجه إلى أن نسبة القراء الشباب في البلدان الصناعية اللاهثة وراء التبادل الربحي والرغبة في تحقيق المآرب الآنية وكسب المال وجنون السلطة تتهاوى باضطراد.
ففي فرنسا تراجع عدد القراء الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و28 سنة، والذين يقرأون ما يقارب العشرين كتاباً سنوياً بمعدل نصف ساعة يومياً، من 35 إلى 11 في المئة ، مضيفاً أن تلامذة الصفوف النهائية عام 1960 كانوا بمعظمهم بحاجة إلى 4 أو 5 دقائق لقراءة وفهم نصٍ قصير نسبياً لا يتعدى عدد كلماته ألف كلمة. غير أن هذا الوقت بدأ بالتراجع في فترة لا تتعدى 50 سنة.
وإذ يحاول ديمورجه في دراساته وكتبه رصد جذور تراجع القراءة المخيف في فرنسا، فهو ينبه إلى أن المدرسة ومناهجها الآخذة بالانحدار لا تساعد على تسليط الضوء على أهمية الكتاب في بناء الإنسان وعلى رصد مآلات المعرفة بعد أن تسلم زمام السلطة التربوية خبراء المال والإدارة والصناعة والتكنولوجيا والمصالح المختلفة.
ولئن كانت الثقافة أمام معضلة التراجع العام، فذلك لأن القراءة دخلت ميدان التسليع والجوائز، التي غالباً لا تكون منصفة، فهي تأخذ بالقارئ نحو نصوص لا تحفز فكره وخياله. ولعل الكتاب الرصين يُخيف، فاستبدل بالتلفزيون وبمنصات التواصل الاجتماعي وبمساحات الترفيه واختصاراتها التي تعني أيضاً اختزال الفكر والابتعاد عن معالجة المواضيع التي تحفر بالعمق بعيداً من "سطحية" الشاشات المسطحة وثقافة الجماهير.
باختصار يريد ميشال ديمورجه أن يعيد للقراءة وللكتاب الكلاسيكي مكانتهما في قولبة عقول الشباب وتهذيب أذواقهم. وها هو ذا ينبهنا إلى أزمة حقيقية بدأت ملامحها بالظهور في كل المجتمعات الإنسانية، منذ أن أصبحت القراءة من آخر اهتمامات الطلاب المنهمكين بمتابعة المنصات الإلكترونية وبعض تطبيقاتها التافهة أو المضيعة للوقت، والاكتفاء بسرعة الوصول إلى المعلومات، صحيحة أكانت أم مغلوطة، التي تحويها صفحات الإنترنت بأقل جهد ممكن.
أدت هذه الحال إلى الكسل والتململ من مطالعة الكتب والتطلع إلى ألعاب الفيديو وكل منصات الترفيه في مجتمعات تسهم على طريقتها في تسطيح عقول شبانٍ وشابات لا يملكون ناصية لغتهم الأم، ولا يفهمون كل ما يقرأون، لافتقادهم لكمٍ هائل من المفردات ولامتلاك طرائق التفكير والتحليل والحكم النقدي، مما يحد من قدرتهم على استيعاب مضامين الكتب والاستمتاع بقراءتها.
ومن العوائق والأسباب التي أسهمت برأي ديمورجه وغيره من الباحثين في موضوع تراجع القراءة خلو مكتبات المدارس من كتب حديثة وعدم الاهتمام بهندستها، بحيث يتشجع الطالب على أخذ الكتاب وتقليب صفحاته، عدا عن غياب دور الأهل كقدوة أولى تهتم بالكتاب وقراءته.
ولئن كانت هذه حال الدول المتقدمة، فما هو وضع الكتاب وقرائه في مجتمعات العربية؟
إن الناظر في أحوال مجتمعات العربية والشرق الأوسطية خاصة، يتلمس ابتعاد الشباب العربي عن الكتاب وانكبابه على تطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة وهواتفه الذكية التي تغير ردود أفعاله ومشاعره وتتلاعب برغباته وحاجته إلى الظهور وحصد "اللايكات"، وانهماكه فقط بتعلم مهنة تؤمن له الكسب المادي السريع في ظل ظروف اقتصادية صعبة وتحديات كثيرة، مما يجعل من الكسب أولوية في الحياة، في حين أصبحت القراءة والثقافة والعمل على تطوير الذات أمراً ثانوياً، في ظل سياسات تربوية تُركز على التلقين من دون التحفيز على التفكير والاستخفاف بالكتاب وقراءته وتقليل ساعات تدريس المواد المرتبطة بالكتب كالأدب والفلسفة والعلوم الصحيحة.
خلاصة القول، أراد ميشال ديمورجه أن تكون كتبه صيحة تنبه إلى وضع خطير، في زمن ارتبط فيه النفع بالمادة بدلاً من الروح التي تتغذى بالكلمات وقراءتها.
فانتقد الذين صوروا لنا الكتاب والقراءة بوصفهما دُرجة قديمة لا جدوى منهما في زمن التكنولوجيا، حاثاً الشباب على الابتعاد عن الكتب اليسيرة على القراءة والتي لا يتطلبُ الوقوف على معانيها جهداً، بل الاهتمام بتطوير الذات والملكات الفكرية التي لا تكون إلا بالعودة إلى قراءة الكتب الأدبية الكلاسيكية والإنسانيات بصيغتها الورقية.