تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

سلمان رشدي يكتب بالسرد ملحمة سنسكريتية

سلمان رشدي
AvaToday caption
مأساة تدفع الإلهة التي تحمل الطفلة اسمها، إلى الانزلاق تحت جلدها ومنحها قدرات خارقة بغية الاضطلاع بمهمة الرفع من شأن النساء في عالم بطريركي ذكوري
posted onOctober 27, 2023
noتعليق

قبل أسابيع قليلة من الاعتداء المأساوي الذي تعرّض له على يد الشاب الأميركي ــ اللبناني هادي مطر، في صيف العام الماضي، أكمل الكاتب الهندي ــ البريطاني سلمان رشدي رواية بعنوان "مدينة النصر"، صدرت مطلع هذا العام في نيويورك عن دار "راندوم هاوس". رواية ملحمية ــ تاريخية رائعة صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود"، ونودّ أن نصدق بأن الشاب مطر، لو قرأها وفهم محركات كتابتها ورسالة التسامح التي تسيّرها، لما أقدم على جريمته البغيضة.

"مدينة النصر" مكتوبة على شكل ترجمة نثرية لملحمة خرافية من 24 ألف بيت شعري كتبتها باللغة السنسكريتية بطلتها، بامبا كامبانا، التي استوحى رشدي شخصيتها من أميرة وشاعرة هندية حقيقية تدعى غانجاديفي، ولدت في القرن الرابع عشر، ويقال إنها عاشت 247 سنة. ملحمة تروي بامبا فيها قصة حياتها وسعيها، على طول عمرها المديد، إلى تشييد إمبراطورية تكون ملجأ للفنون والأفكار الجديدة، ومكاناً تتمتع المرأة فيه بالحقوق نفسها التي يتمتع بها الرجل. إمبراطورية يوتوبية مستوحاة من مملكة فيجاياناغارا التاريخية (1336 ــ 1565) في جنوب الهند.

على طول الرواية، يبقى المترجم ــ الراوي مجهول الهوية، لكن القارئ يتعرّف بسرعة فيه إلى رشدي، من خلال روح الدعابة الفريد لديه، نبرة صوته المبهجة والحارّة، وأيضاً تواضعه الذي يجعله يقول على لسان صنوه: "لست علّامة ولا شاعراً، بل مجرّد غزّال قصص". راوٍ آسِر يبدأ سرديته بمشهد رهيب تشاهد الطفلة بامبا كامبانا فيه أمها وجميع نساء قريتها يحرقن أنفسهن بعد موت أزواجهن في الحرب. مأساة تدفع الإلهة التي تحمل الطفلة اسمها، إلى الانزلاق تحت جلدها ومنحها قدرات خارقة بغية الاضطلاع بمهمة الرفع من شأن النساء في عالم بطريركي ذكوري. لكن قبل الانطلاق في مهمتها، تلجأ بامبا إلى كهف يعيش فيه ناسك يعلّمها مبادئ الهندوسية، ولا يمتنع من التحرّش بها. بعد ذلكك، تتعرّف إلى الأخوين هوكا وبوكا سانغاما، وهما راعيا بقر اختبرا الجندية، لكنهما فرّا من أرض المعركة، بعد هزيمة، للإفلات من العبودية.

لتشييد إمبراطوريتها، تمنح بامبا هذين الشقيقين كيساً من البذور وتطلب منهما زرعها في موقع قريتها السابقة. وحين ينفّذان طلبها، تنبثق فوراً من الأرض مدينة مذهلة تعجّ بالقصور والمعابد الفخمة. ولأن بامبا وعدتهما أيضاً بقدر عظيم، يتربّع هوكا وبوكا بالدور على عرش المدينة، وتحضر هي إليها لهمس ذكريات في آذان الناس الذين وُلدوا تواً فيها. ومع أنها ستتزوج منهما، الواحد تلو الآخر، بغية تحقيق مشروعها، لكنها لن تعرف الحبّ الحقيقي إلا مع تاجر خيول برتغالي يمنح هذه المدينة السحرية اسمها: بيسناغا.

من الملك هوكا، تُنجب بامبا ثلاث بنات يشبهن إلى حد بعيد التاجر المذكور. ومن الملك بوكا، تنجب ثلاثة صبيان. وخلال عهد هذا الأخير، تطالبه بمنح بناتها الحق في اعتلاء عرش بيسناغا، وهو ما يتعارض مع التقليد. فضمن سعيها لإحقاق المساواة بين الجنسين، تعتبر هذا التغيير ضرورياً للحفاظ على قيَم المملكة وترسيخها. ومع أن طلبها يثير صراعاً داخلياً بين مؤيد ومعارض، إلا أن بوكا المتيَّم بزوجته يوافق عليه، ويذهب حتى إلى تنفيذ طلب آخر لها يقتضي بنفي أطفالهما الثلاثة بسبب معارضتهم هذا التغيير.

لكن بعد سنوات قليلة، وإثر وفاة بوكا، يعود الأبناء إلى بيسناغا ويسيطروا على المملكة بمساعدة أعمامهم، وهو ما يُجبر بامبا على الفرار مع بناتها، فيختبئن في غابة سحرية على مدى عقود. وخلال هذه الفترة، تكبر البنات وتأخذ كل واحدة منهن درباً مختلفاً في حياتها. أما بامبا، التي تبقى أبداً فتية، فتعود إلى بيسناغا، ومع مرور السنين، تستعيد هالتها الأسطورية فيها، فتتمكن من بلوغ ملك المدينة الأخير، كريشناديفارايا، وتصبح مستشارته والأميرة الوصية على عرشه، وتعيش بيسناغا بفضلها عصراً ذهبياً جديداً.

لكن بعد سلسلة حروب ووفاة ابنيّ الملك، الواحد تلو الآخر، يصاب كريشناديفارايا بالجنون، وخلال إحدى نوبات غضبه، يأمر بفقء عيني بامبا، الأمر الذي يثير سخط أبناء المدينة ويدفعهم إلى الانقلاب عليه. أما هي، فتستقر مرةً أخرى في معبد ناسك. وبما أنها تبدأ أخيراً بالإحساس بعجز في جسدها، وكانت قد تجاوزت القرنين من العمر، تمضي أيامها معزولة داخل غرفتها في كتابة قصتها. ومع وفاة كريشناديفارايا، تنهار إمبراطورية بيسناغا بسرعة، فتغزوها جيوش الممالك المحيطة بها وتنهب ثرواتها وتدمر معالمها. وتنتهي الرواية بمشهد نرى فيه بامبا تخبئ مخطوطها في وعاء خزفي، في انتظار أن تطلق الإلهة سراحها فتموت.

في كتابه "مفردات الحقيقة" (2021)، الذي يضم مختارات من بحوثه ومقالاته النقدية، أوضح رشدي أن رواياته المقتبسة من حكايات أسطورية أو تاريخية، غايتها مقاربة أسئلة معاصرة طارئة، وإظهار كيف تُناقش هذه الحكايات وتُعاد كتابتها في زمننا الراهن، مندداً باستغلالها الشعبوي لغايات سياسية. وهذا ما يفعله في "مدينة النصر" التي هي في الواقع قصة "فيجاياناغار"، الإمبراطورية الهندوسية التي سقطت في أيدي جيوش الممالك المسلمة التي كانت تحيط بها، وتحوّل موقعها إلى رمز للعداء بين الهندوس والمسلمين في وطنه الأم. إمبراطورية خضع تاريخها حديثاً لإعادة كتابة تحريفية من قبل الحكومة القومية الهندوسية الحالية، يناقضها الروائي، الذي هو أيضاً مؤرّخ لامع، بمدافعته في روايته عن أطروحة مفادها أن حكّام هذه الإمبراطورية هم الذين تسببوا في سقوطها، بنزاعاتهم الداخلية ومؤامراتهم للتربّع على عرشها، مما زعزع استقرارها ومكامن قوتها.

وفي هذا السياق، يستكشف رشدي على طول روايته سيرورة كتابة التاريخ، مبيّناً كيف تُسجَّل أحداثه، وكيف تُهمل في هذه العملية بعض أسباب هذه الأحداث ودلالاتها، فيقول لنا على لسان بطلته: "التاريخ هو نتيجة أفعال الناس، وأيضاً نسيانهم". من هنا قيمة وصفه المفصّل ــ والمعبِّر ــ لحياة بلاط الملوك الذي تعاقبوا على حكم الإمبراطورية، ولحياة الناس في عاصمتها، ولسرديات الرحّالة الأجانب الذين قصدوها واستقروا طويلاً فيها، ويؤدي كل واحد منهم دوراً داخل الرواية. وصفٌ ينير تلك المرحلة المفصلية من تاريخ الهند، وفي الوقت نفسه، يثير داخلنا مجموعة أسئلة، أبرزها: "إلى أي حد يمكننا الوثوق بتاريخنا؟ وإلى أي حد ذاكرتنا مغلوطة، والحقيقة التاريخية مخترَعة؟

ومع أن رشدي أنجز هذه الرواية قبل الاعتداء الذي تعرّض إليه، لكن لا مبالغة في اعتبارها خير ردّ على المعتدي وما يمثّله، بإنسانيتها العميقة ومديحها للرقّة والتسامح، وبحملها في كل صفحة من صفحاتها دعوة إلى العدالة والاحترام والمساواة، وبمنحها إيانا موشوراً للتأمل من خلاله في ما يمكن أن يهدد هذه المُثُل، وأيضاً الكلمات والقصص الناجعة للمدافعة عنها. رواية تقابل الكراهية بالحب، الأصوليات الدينية بحريّة المعتقَد، التعصّب بالشعر، وتُقرأ كحكاية طويلة عن السلطة والجشع وزوال كل شيء، وعن أفكار تبدو راديكالية حتى بعد مرور خمسة قرون على ظهورها، كفكرة أن النساء لسن فقط متساويات مع الرجال، بل يتفوّقن عليهم، أو فكرة أن "الخارق واليومي هما نصفان من كلٍّ واحد، ونحن أنفسنا الآلهة التي نسعى إلى عبادتها، والقادرة على القيام بأعمال عظيمة". آلهة لأننا مبتكرو حكايات.

ومن هذا المنطلق، تُقرأ "مدينة النصر" أيضاً كنشيد احتفاء بسلطة السرد. فعلى لسان صنوه الراوي، يقول رشدي فيها: "إما أن يكون كل هذا صحيحاً، أو لا شيء منه يمتّ إلى الحقيقة بصلة. نحن نفضّل أن نؤمن في حقيقة الحكاية المروية بمهارة". وعلى لسان بطلته بامبا، التي ستفقأ يد الجهل عينيها، تماماً كما سيفقأ نصل الكراهية واحدة من عينيه، يقول لنا ببصيرة: "كل ما يتبقّى هو مدينة الكلمات هذه. الكلمات هي المنتصِر الوحيد".