تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

إيران وانسجام سلوكياتها الإقليمية مع "اتفاق بكين"

اتفاق بكين
AvaToday caption
التغيير في أسلوب التعامل الإيراني لا يعني أن تتخلى طهران عن جماعاتها وأذرعها، بل من المتوقع أو المفترض أن تلجأ إلى سلوك مختلف لا يهدد استثماراتها وإمكان التأثير الدائم من خلال هذه الجماعات
posted onMay 18, 2023
noتعليق

حسن فحص

لا يزال الاتفاق الثلاثي بين السعودية وإيران برعاية صينية يفتح شهية المتابعين على البحث حول أبعاده وتداعياته، وما يمكن أن يلعبه من دور في ترتيب المعادلات السياسية المستقبلية بالشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا، والتحديات الكامنة فيه للقوى الدولية المعنية بهذه المنطقة التي تشكل حلقة مهمة وأساسية في نظام مصالحها الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية.

لا شك في أن التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة من بوابة عودة العلاقات السعودية - الإيرانية وما فيها من تفاهمات ثنائية، أو على صعيد ملفات المنطقة، تشكل مؤشراً واضحاً على عمق ما تم التفاهم حوله بين القيادتين وشكل أبرز مخرجات الاجتماعات المكثفة التي جرت في العاصمة الصينية، وانتهت بالتوقيع على الاتفاق الذي عبر عن روحه البيان الذي صدر بعد خمسة أيام من الحوارات.

وفي بيان الاتفاق اتفق الطرفان على احترام سيادة دول المنطقة وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، مما يعني بالدرجة الأولى والأساس التدخل الأمني والعسكري والتأثير في قرارات ومواقف الدول المعنية بهذا الموضوع، لأن العلاقات السياسية القائمة بين الدول على أساس احترام سيادة كل دولة تترك هامشاً لنوع من التدخل السياسي الذي يأخذ بعين الاعتبار في هذه العلاقات المصالح الوطنية والإستراتيجية لكل دولة، وألا تشكل هذه السياسات تهديداً للمصالح الإستراتيجية للدولة الأخرى، بخاصة إذا ما كانت دولة مجاورة أو تشكل مجالاً حيوياً جيوستراتيجياً لها.

والمعني بهذا التأكيد، وهو احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، لا يعدو الطرف الإيراني الذي عمل على مدى أربعة عقود من عمره على الاستثمار في بناء قوى وجماعات عسكرية وسياسية وأمنية تعمل معه، وتشكل الأذرع الأساس التي يعتمد عليها في تعزيز وتكريس نفوذه في الإقليم، والإمساك بسياسات ومواقف هذه الدول، ولن يكون من الصعب الاستدلال على هذا الأمر، الساحة الإقليمية من اليمن مروراً بالعراق وسوريا ووصولاً إلى لبنان وفلسطين وغيرها من الدول التي تدخل في إطار الرؤية الإستراتيجية والجيوستراتيجية للنظام الإيراني على امتداد منطقة غرب آسيا والقوقاز.

الالتزام بهذه النقطة أو المبدأ البديهي والمسلم به في العلاقات الدولية من المفترض أن يفتح مساراً إيرانياً جديداً في التعامل مع دول المنطقة وساحات نفوذ إيران في الإقليم، وتحديداً الدول العربية، وينقل طهران والنظام ومؤسساته المعنية في التعامل مع هذه الساحة، وهنا تحديداً الذراع الخارجية للنظام المتمثلة في "قوة القدس" التابعة للحرس الثوري، إلى مستوى مختلف عما اعتمد تاريخياً خلال العقود الماضية من آليات أمنية وعسكرية على حساب مؤسسات الدولة الرسمية.

هذا الانتقال أو التغيير في أسلوب التعامل الإيراني لا يعني أن تتخلى طهران عن جماعاتها وأذرعها، بل من المتوقع أو المفترض أن تلجأ إلى سلوك مختلف لا يهدد استثماراتها وإمكان التأثير الدائم من خلال هذه الجماعات، بخاصة وأن الهدف الإستراتيجي من بناء هذه المنظومة في هذه الدول أدى مهمته ومهد الطريق أمام تثبيت النظام الإيراني كلاعب مؤثر وصاحب ثقل في المعادلات الإقليمية، ومنحه القدرة على أن يكون حاضراً في السياسات الدولية.

وفي المقابل فإن هذه الجماعات أو الحلفاء سيكون عليهم في المرحلة المقبلة أن يتوافقوا مع النهج السياسي الإيراني الجديد، والانتقال إلى التعايش مع المستجد الذي أنتجه الاتفاق بين الرياض وطهران، والمعادلات التي سينتجها أو يفرضها على الساحة الإقليمية، والانتقال من حال الخصومة والصراع إلى حال التعاون والحوار ومراعاة مصالح جميع الأطراف.

وإذا ما استطاعت إيران الالتزام وتطبيق هذا السلوك الجديد، والتركيز هنا على طهران، فلا يعني هذا أن الأطراف الأخرى لن تكون مطالبة بالأمر نفسه، بل لأن النظام الإيراني هو الطرف الذي يملك أذرعاً وقوى سياسية وعسكرية قادرة على عرقلة التوجهات الجديدة، ولعب خلال الأعوام الماضية هذا الدور السلبي عندما كانت المعادلات السياسية تصب في غير الصالح الإيراني ومشروعه الإستراتيجي.

الاستثمار في السلم سيكون عنوان المرحلة المقبلة في السياسات الإيرانية الإقليمية وفي التعامل مع الجماعات الموالية لها، ودفعها لتكون جزءاً من هذا التوجه الجديد لدى الراعي الإقليمي لها، والمؤشرات الجدية على هذا التحول أو التغيير بدأت بالتبلور والتمظهر، سواء على مسار الأزمة اليمنية والتنازل الجوهري الذي لجأت إليه جماعة الحوثي في القبول بمبدأ الجلوس إلى طاولة حوار يمني - يمني برعاية سعودية، في حين يبدو أن القوى والأحزاب والجماعات المسلحة العراقية التقطت مؤشرات التغيير في المعادلات باكراً، بخاصة وأن بغداد كانت المستضيف لانطلاق الحوار الثنائي بين الرياض وطهران، وذهبت بعيداً في ترجمة هذه التوجهات الإيجابية، ولم تتوقف عند البعد الإقليمي في إعادة العلاقات بين إيران ومحطيها العربي، بل وسّعته ليشمل قنوات تواصل مع الإدارة الأميركية التي لا تزال تعتبر الخصم الرئيس للنظام الإيراني.

أما المؤشر الأبرز على تأثير الاتفاق السعودي - الإيراني فجاء من الساحة السورية والحراك المتسارع الذي قام به النظام السوري في التقاط هذه المؤشرات وتوظيفها لإعادة الانفتاح على العمق العربي، وهو ما لا يشكل تحدياً للنظام الإيراني الذي أعلن انتصار مشروعه في سوريا والمنطقة بالزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق قبل أيام، وترحيبه بعودة سوريا للجامعة العربية، أي أن طهران لم تعد خائفة أو متوجسة من أي حراك عربي تجاه سوريا أو العكس، طالما أنها استطاعت مصادرة أو الاستحواذ على القرار الإستراتيجي للنظام في دمشق، وقدرتها على توظيف هذا الانفتاح لتعزيز الثقة بنياتها الجدية في الانتقال إلى التعاون مع دول الإقليم.

أما الساحة اللبنانية وما يمكن أن تشهده المرحلة المقبلة من أداء "حزب الله" فلن تكون بشيء من اليقين مشابهة لأدائه ومواقفه السابقة، وسينحو باتجاه التسويات التي تضمن له مصالحه وتؤمن الحد الأدنى من مطالب الآخرين.

هذه المتغيرات تعني أن المرحلة المقبلة ستشهد استمرار الرعاية الإيرانية لحلفائها في الإقليم، وستحافظ على استمرارية دعمها لهم لتحقيق أهدافهم ومصالحهم من داخل النظام السياسي ومؤسسات الدولة التي ينتمون إليها وليس على حسابها، مع الحرص على أن تصب هذه السياسات في سياق المصلحة الإستراتيجية للمحور الذي يقوده النظام الإيراني.