تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

تونس نحو انهيار اقتصادي وشيك

تونس
AvaToday caption
مجلس المحافظين في البنك الدولي وافق في فبراير/شباط الماضي على منح تونس قرضا بقيمة 120 مليون دولار لمواجهة شح السيولة في وزارة المالية
posted onApril 30, 2023
noتعليق

دخلت الأزمة التونسية نفقا غامضا جديدا بعد التصعيد في وجه المؤسسات المالية الدولية، بشأن الإفراج عن قرض قيمته 1,9 مليار دولار لسد العجز في موازنة 2023 الذي يقدر بأكثر من خمسة مليارات دولار، ما يضع البلاد في خانة التخلف عن تسديد مستحقات الديون الخارجية. جاء ذلك عقب تصريحات للرئيس التونسي قيس سعيّد الرافضة شروط صندوق النقد الدولي التي وصفها بـ"غير المقبولة وتهدد السلم الاجتماعي". واعتبر أن "الإملاءات التي تأتي مـن الـخـارج مرفوضة لأنها تـؤدي إلىمزيد من الإفقار". وقالت صحيفة "لوموند" الفرنسية إن الرئيس يسعى إلى إقناع جزء من الرأي العام المحلي والخارجي بصعوبة تنفيذ شروط الصندوق، مخافة تكرار سيناريو انتفاضة الخبز في أواسط ثمانينات القرن الماضي، عندما رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية الأساسية. واعتبر مراقبون أن سعيّد يتجه نحو القطيعة مع صندوق النقد ويراهن على دعم بديل من دول مناوئة للولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يعتبره الدافع وراء تشديد شروط منح مساعدات لبلاده.

بحسب المتحدث باسم جبهة 25 يوليو/تموز، المؤيد للرئيس، محمود بن مبروك، ستتجه تونس للانضمام إلى مجموعة "بريكس"(BRICS) التي تجمع البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وذلك "بديل سياسي واقتصادي ومالي سيمكّن تونس من الانفتاح على العالم الجديد، ويمنحها مكاسب اقتصادية يكون لها تأثير إيجابي على الأوضاع الاجتماعية في البلاد". لكن هذا البديل ليس واقعيا وغير قابل للتطبيق، لأن تونس تحتاج إلى عملات أجنبية آنية من الدولار واليورو لتسديد ديون مستحقة لحساب مؤسسات مالية دولية وأوروبية. كما لا يبدو الطرح منطقيا بالنظر إلى حجم الاقتصاد التونسي الذي يقدر بنحو 45 مليار دولار، ومديونية تصلالى 80 في المئة من الناتج الإجمالي.

تعتقد المعارضة التونسية في  شقيها الإسلامي والعلماني الليبيرالي، أن الرئيس سعيّد ينفذ أجندة جزائرية يُبعد من خلالها البلاد عن حلفائها التقليديين في المنطقة المغاربية واليورو متوسطية. وعبّر نجيب الشابي، رئيس جبهة الخلاص الوطني، عن رفضه التدخل الجزائري في الشأن التونسي، ردا على كلام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي وصف المعارضة بـ"التهديد للاستقرار التونسي" وبأنها "تسعى لإسقاط الرئيس والدولة"، وهي المرة الأولى التي تواجه فيها المعارضة ما سمّته "الوصاية الجزائرية على تونس ودفعها إلى تبني مواقف خارجية تزيد في عزلتها الإقليمية والدولية".

صفعة للوساطة الإيطالية

تلقت روما بدورها صفعة في وساطتها مع صندوق النقد الدولي لتجنب سيناريو انهيار الدولة وتدفق آلاف المهاجرين نحو السواحل الشمالية. واقترح وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني تقديم دعم أوروبي عاجل بقيمة 300 مليون يورو لتونس في مقابل التزام إجراء الإصلاحات المالية والاقتصادية التي يطلبها الصندوق لاحقا.وحذرت إيطاليا من أن أي تأخير في التمويل سيعني "تفجير الأزمة المالية التيمن شأنها أن تؤدي إلى احتدام الوضع الداخلي"، مما سيهدد أمن منطقة البحر المتوسط بكاملها. والحقيقة أن روما تخاف من تدفق المهاجرين وليس هدفها دعم الرئيس قيس سعيد المنبوذ أوروبيا. وكتبت "نيويورك تايمز" أن ملف الهجرة غير الشرعية التي تخيف أوروبا، تعتبر ورقة ضغط كبيرة يملكها الرئيس سعيد في مواجهة تهديدات الاتحاد الأوروبي بأخطار الانهيار الوشيك. وذكر المنبر التونسي للحقوق الاجتماعية الاقتصادية أن شرطة السواحل اعترضت آلاف المهاجرين غير الشرعيين، تمكّن نحو 16 ألفا منهم من الوصول إلى السواحل الإيطالية مطلع السنة الجارية، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة. ويعيش في تونس عشرات الآلاف من المهاجرين الراغبين في الوصول إلى السواحل الإيطالية، معظمهم من أفريقيا جنوب الصحراء. ويتخذ موضوع الهجرة حساسية بالغة في دول الاتحاد  الأوروبي تقوم عليها الصراعات السياسية الداخلية. جل ما تتنماه تلك الحكومات هو أن يتوصل صندوق النقد إلى اتفاق مع تونس يبعد خطر السقوط الوشيك ويمنع "تسونامي المهاجرين".

مهاجرون

قلق أوروبي

عبّر وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 عن قلقهم من الأوضاع الخطيرة التي تمر بها تونس، المهددة بإفلاس مالي واقتصادي وصعوبات سياسية واجتماعية غير مسبوقة. ونقل الممثل السامي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي جوزف بوريل خلال اجتماع وزراء الخارجية في بروكسل نهاية مارس/آذار الماضي صورة قاتمة عن آفاق الحل السياسي والاقتصادي والأمني في تونس. ودق التحذير الأوروبي  ناقوس الخطر للاستعداد لكل الاحتمالات حتى أكثرها درامية، بما فيها هجرة غير مسبوقة من الضفة الجنوبية نحو الضفة الشمالية، ومعها مآسٍ محتملة لمئات الغرقى في "ماري نوستروم" (MareNostrum). وذلك أيضا همسة في الأذن الأميركية أن أي اتفاق مع صندوق النقد مهماً كان سيئا، قد يكون بديلا من انهيار الأوضاع في تونس التي تحولت إلى الحلقة الأضعف في شمال أفريقيا، وفي جوارها ليبيا التي تعج بالمقاتلين والإرهابيين من كل التيارات، وفي جنوبها مجموعة مقاتلي "فاغنر" (Wagner) الروسية المنتشرة في دول الساحل على مساحة تمتد على ربع القارة الأفريقية. لذلك قرر الاتحاد إيفاد مبعوثين من بلجيكا وإيطاليا والبرتغال إلى قيس سعيد لتقييم الأخطار المحدقة وبحث الحلول الممكنة.لكن الاتحاد بدوره غير متفق على الحل المطلوب. فإيطاليا وفرنسا مستعدتان لدعم مالي واقتصادي للرئيس المشاكس، لإنقاذ تونس من حرب أهلية أو انقلاب عسكري (كما تم الترويج له خلال فترة غياب الرئيس لأسباب صحية خلال شهر رمضان).

في المقابل ترى دول أوروبية أخرى أن الحل يكمن في التوصل إلى اتفاق مع المؤسسات المالية الدولية على حزمة إصلاحات داخلية، كشرط أولي للإفراج عن المساعدات المالية. لكن الوصول إلى ذلك يحتاج إلى توافق داخلي، وموافقة من واشنطن، التي لا تخفي معارضتها لسياسة قيس سعيد الداخلية والخارجية واستيلائه على السلطة بطرق غير ديموقراطية في بلد انطلق منه الربيع العربي قبل 13 سنة.

الحل لدى "بريتون وودز"

متتبعو الشأن التونسي يتساءلون عن دواعي تخلي المؤسسات المالية الدولية عن تونس، وتركها إلى مصيرها الاقتصادي والمالي، بعدما طلب رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس إلى موظفيه وقف التعاون في برنامج الشراكة الإستراتيجية مع تونس للفترة 2023-2027 ردا على تصريحات عنصرية صدرت في حق مهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء، نتجت منها أعمال عنف ضد رعايا عدد من دول الساحل. كما أدانت لجنة مناهضة الكراهية في الأمم المتحدة تصريحات سعيد وتحريضه ضد الأفارقة، وادعاءه أنهم جزء من مؤامرة دولية لتحويل تونس من بلد عربي إلى بلد أفريقي. وهو ما اعتبره الاتحاد الأفريقي ومنظمات حقوقية "موقفا عنصريا خطيرا". وردت جمعيات حقوقية منها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن مجموع عدد المهاجرين في وضعية غير قانونية لا يتجاوز 21 ألف شخص في بلد يسكنه 12 مليون نسمة بحسب "الايكونوميست".

وكانت الحكومة تراهن على تمويلات من البنك الدولي وصندوق النقد لسد فجوة في موازنة 2023 قدرت بنحو خمسة مليارات دولار على الأقل، في وقت أكد مسؤول في البنك أنه "من غير المرجّح منح تونس تمويل جديد قبل اتّضاح الأوضاع وإبرام إطار شراكة جديد"بحسب وكالة الصحافة الفرنسية (AFP). وكان مجلس المحافظين في البنك الدولي وافق في فبراير/شباط الماضي على منح تونس قرضا بقيمة 120 مليون دولار لمواجهة شح السيولة في وزارة المالية، وتسديد مستحقاتها للشركات الصغرى والمتوسطة المهددة بالإغلاق.

2023  سنة صعبة في تونس

بناء عليه وفي التوقعات للسنة الجارية، حذّر محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي من أن سنة 2023 ستكون صعبة في ظل ضعف النمو وارتفاع التضخم (أكثر من 10 في المئة) ومعدّل البطالة (أكثر من 15 في المئة)، وأنه "في حال عدم التوصل إلى اتفاق سريع مع صندوق النقد على قرض جديد، سيكون الوضع مقلقا للغاية، خصوصا أن المفاوضات بين الطرفين تراوح مكانها". وكان الصندوق توصل مع السلطات التونسية إلى اتفاق على مستوى الخبراء في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2022 الماضي حول برنامج جديد مدته 48 شهرا في إطار "تسهيل الصندوق الممدد" لدعم السياسات والإصلاحات الاقتصادية، بقيمة 1,472 مليار وحدة حقوق سحب خاصة (أي نحو ملياري دولار أميركي). وكان منتظرا عرض الاتفاق النهائي في شأن البرنامج على موافقة المجلس التنفيذي للصندوق خلال الاجتماع المقرر انعقاده لمناقشة طلب تونس في شهر ديسمبر/كانون الأول المنصرم، بالتزامن مع وجود الرئيس التونسي في واشنطن للمشاركة في القمة الأميركية الأفريقية. لكن المفاجأة أن الصندوق أرجأ النظر في القرض المقترح إلى تاريخ لاحق، ما فسّره المراقبون بالموقف الأميركي غير الراضي أو حتى الغاضب من تصرفات الرئيس المتهور. ولا تخفي الولايات المتحدة معارضتها لسياسة الرئيس سعيد وخطاباته الحادة ومناهضته العلنية للسامية.

تونس

سباحة ضد التيار

كشفت مصادر ديبلوماسية لـ"المجلة" أن الرئيس يقصد بهذه المواقف الحصول على دعم مالي وسياسي من الجزائر، في مقابل مساعدات لوقف انهيار الدينار التونسي. وكانت الجزائر منحت قيس سعيد  قرضا قيمته 200 مليون دولار ووعدته بوديعة مماثلة في البنك المركزي، في مقابل الاصطفاف إلى جانبها ضد المغرب في التنافس الإقليمي. وتستخدم الجزائر ورقة الغاز مع إيطاليا وفرنسا لإقناعهما بدعم الرئيس سعيد وتجنب إطاحته. وكانت اليابان من جهتها رفضت دعم تونس خارح أي اتفاق مع الصندوق، بعد إشراك زعيم البوليساريو الانفصالية  في مؤتمر اقتصادي بين اليابان وأفريقيا عُقد في تونس نهاية العام المنصرم، وهو ما أثار غضب المغرب، وتسبب في تدهور كبير في العلاقات مع الرباط وطوكيو ومعظم العواصم الأفريقية. وسقطت تونس في المحظور الذي تجنبه كل الرؤساء السابقين طيلة ستة عقود.

كل شيء في تونس يدعو إلى القلق، بإجماع المراقبين والمحللين. حتى أكثرهم تشاؤما لم يكن يتوقع مصيرا مأزوما للبلد الذي انطلق منه الربيع العربي، وسُمي بـ"ثورة الياسمين"، مقارنة بعنف ثورات كانت أكثر دموية في دول عربية أخرى. بل كان الرهان أن يحقق البلد العربي الواقع في شمال أفريقيا على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، انفتاحا ديموقراطيا وتنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية، استنادا إلى مستوى مرتفع من تعلم المرأة وحريتها، وطبقة وسطى عريضة، وشباب مليء بالطموح، واقتصاد متنوع بين السياحة والزراعة والفوسفات وبعض الصناعات الاستهلاكية التصديرية. هذا بالإضافة إلى القرب الجغرافي من الأسواق الأوروبية واعتدال في المواقف الخارجية، وانفتاح على المؤسسات المالية العالمية. كانت تونس تمثل دولة نموذجية مرشحة للتقدم. بعد 12 سنة من تجارب حكومات الربيع المتعاقبة، تبدو تونس اليوم كالجسم المعطوب في منطقة المغرب العربي: المؤشرات يطغى عليها اللون الأحمر.

الحنين إلى الزمن الجميل

بعيدة تلك الصورة الجميلة التي كانت تُنقل عن تونس الخضراء وشواطئها البيضاء، كما كانت تُوصف في  أشعار وأغاني خمسينات القرن الماضي. "لبنان شمال أفريقيا" حيث السياحة كانت تجمع كل الجنسيات والديانات والمعتقدات، وساد التحرر في مجتمع حديث العهد بالاستقلال.

كانت التجربة الإسلامية قاسية في تونس على المرأة والاقتصاد والاستثمار، وتأرجح الاقتصاد بين نمو متواضع وانكماش على مدى عقد من الزمن من 2011 إلى 2019 ليتراجع النمو الى 1,6 في المئة في 2023، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي.

خفضت وكالة "موديز" (Moody's) التصنيف السيادي الائتماني على العملات الصعبة إلى درجة Caa2  مع آفاق سلبية على المدى الطويل، ما اعتبره المحللون رسالة تحذير إلى الحكومات والمصارف الأجنبية من قرب غرق سفينة الاقتصاد التونسي

"القادم أسوأ... وصيف ساخن"

في وقت تُواجه تونس منذ أشهر شحّا متزايدا في بعض المواد الأساسية كالسكّر والسميد والزيت والقهوة إضافة إلى المحروقات والأدوية (300 دواء مفقود)، تزامنا مع ارتفاع الأسعار، تبدو المعادلة بحسب مراقبين شبه مستحيلة لإخراج تونس من وضعها المالي المنهار، حيث أن أي اتفاق مع الصندوق، مهما كان، يحتاج إلى توافق داخلي مع النقابات العمالية والأحزاب السياسية والهيئات الشعبية المختلفة، وتصديق من البرلمان على إصلاحات صعبة اجتماعيا، تشمل بيع شركات القطاع العام وخفض قيمة الدينار، ووقف دعم الأسعار وتحرير الاقتصاد بالكامل، واللائحة تطول. وتعارض نقابات الاتحاد التونسي للشغل أي إجراءات مالية ضد الحقوق الاجتماعية للعمال، مما دفع الرئيس إلى اعتقال قادة النقابة واتهامهم بالتحريض على الإضراب.

وسبق لرئيس "نادي باريس"، إيمانويل مولان، أن أبلغ الرئيس سعيد بضرورة التوصل إلى صيغة تصالحية مع المؤسسات المالية ووكالات التصنيف الدولية قبل أي طلب لجدولة الديون. وخفضت وكالة "موديز" (Moody's) التصنيف السيادي الائتماني على العملات الصعبة إلى درجة Caa2   مع آفاق سلبية على المدى الطويل، ما اعتبره المحللون رسالة تحذير إلى الحكومات والمصارف الأجنبية من قرب غرق سفينة الاقتصاد التونسي. وقالت وكالة "يونيفرس نيوز" (Univers News) إن هذا التصنيف يكشف أن تونس أصبحت عاجزة عن الوفاء بمستحقاتها الخارجية وهو بمثابة "إعلان  إفلاس".

كل الاحتمالات والفرضيات ممكنة، كما قال جوزف بوريل أمام وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي؛ "القادم أسوأ. استعدوا لصيف ساخن في البحر المتوسط".