تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"جميلة والوحش"، حكاية لا تنضب من الإبداع

جميلة والوحش
AvaToday caption
مهما يكن من أمر، فإن الحكاية كما باتت اليوم راسخة وتقدمها المغناة التي تعد الصيغة الأكثر عصرية للحكاية، تبدأ ذات ليلة شتاء باردة حين تصل متسولة عجوز إلى قلعة يحكمها أمير شاب متهتك ومدلل
posted onNovember 13, 2022
noتعليق

"جميلة والوحش" هي في الأصل حكاية يرويها أوفيد منذ القرن الثاني الميلادي في كتابه "التحولات" بين عديد من الحكايات الأخرى، وهي منذ ذلك الحين اعتبرت إلى حد ما حكاية الحكايات، تتناقلها الأجيال وتقتبسها الإبداعات الفنية والأدبية، كما تتحول من حين إلى آخر إلى حكاية للصغار وتصبح مرات ومرات أسطورة تتناقلها الألسنة شفاهية.

ومن هنا لم يكن غريباً أن يكون من بين المقدمين على اقتباسها في القرن العشرين الكاتب والشاعر والسينمائي الفرنسي الأكثر تجريبية جان كوكتو، ولسان حاله يؤكد حين يسأله زملاؤه عن ذلك التجديد في مسيرته الفنية وهل أزمع أخيراً أن يحقق أعمالاً للصغار، "ومن قال لكم أن جميلة والوحش عمل للصغار؟".

وقبل جان كوكتو ومن بعده اقتبست الحكاية عشرات المرات للسينما، كما تم تلحينها كأوبرا، ناهيك بالمرات العديدة التي قدمت فيها كعمل مسرحي للكبار كما للصغار سواء بسواء، وحولت إلى ألبومات شرائط مصورة.

والحكاية لم ولن تنتهي بالطبع ولن تستنفد كل إمكاناتها في مجال متعة القراءة أو المشاهدة أو الإصغاء إلى موسيقاها.

مع ذلك فإن موضوع "جميلة والوحش" بسيط يلامس في جوهره أفئدة الناس جميعاً، ويمكن اختصاره في كلمات قليلة، الحب والتضحية في سبيله والتفاوت بين جمال الروح وقبح المظاهر.

تدور الحكاية طبعاً من حول "جميلة" الحسناء التي تجد نفسها ذات يوم أمام معضلة حياة أو موت تتعلق بأبيها الذي حكم عليه بالموت لمجرد أنه قطف وردة من حديقة محظورة تخص أمير البلاد.

وهي الآن لكي تنقذ أباها من هذا المصير عليها أن ترتضي العيش في قلعة معزولة مع وحش مشوه ستدرك ذات لحظة أن ثمة خلف سماته الوحشية رجلاً آخر ستكتشفه بالتدريج.

وتدرك أن ذلك الشاب المغلف بكل الصفات الشكلية الحيوانية إنما هو واقع تحت تعويذة جعلته كذلك، وليس ثمة سوى الحب الحقيقي ما يمكنه أن يعيده إلى طبيعته.

ومن هنا يتحول سياق الحكاية إلى دوامة تعيش فيها "جميلة" تتمحور من حول قدرتها خلال الأيام التي تعيش فيها بالقلعة رفقة ذلك الوحش على تحمل تلك الرفقة وعيش حكاية الحب الحقيقية مع وحش لمجرد أن تتمكن بذلك من إنقاذ والدها.

وطبعاً نعرف بقية الحكاية بالنظر إلى معظم الناس قد قرأوها وتفاعلوا معها حتى من قبل أن يتلقفها المبدعون، وربما تحديداً منذ عام 1740 حين تحولت الحكاية المتداولة إلى قصة مستقلة كتبت أصلاً للصغار في فرنسا، ضمن مجموعة حكايات راح يرويها ركاب سفينة ليمضوا الوقت ريثما تنتهي رحلتهم.

وكان بين الركاب خادمة روت ما أكدت أنه حكاية سيدتها التي ولدت في غاية الحسن إلى درجة أن والديها لم يجدا لها اسماً يلائمها أكثر من "بيل" أي جميلة بالفرنسية.

ومن الواضح هنا أن جميلة هذه هي صاحبة الحكاية التي ترويها الخادمة، التي دخلت تاريخ الذهنيات في العالم أجمع وقد اقترن اسمها باسم "الوحش" لتؤكد في نهاية الأمر أننا إنما نحن من يخلق الوحش اعتماداً على المظهر الخارجي، وأن أعتى الوحوش يخفي في أعماقه كل ضروب الفضائل والحب إن نحن منحناه الحنان والتفهم اللذين يحتاج إليهما.

ويمكننا القول إن إنسانية هذه الحكاية إنما هي هنا في هذه الخلاصة التي توصلنا إليها.

مع ذلك فإن ثمة من بين المؤرخين من يرى أن الحكاية، حتى وإن كانت مأخوذة عن تواتر متتال من حكايات تولد من بعضها بعضاً ويبدو أن للخيال دوراً كبيراً في صياغتها بالشكل الذي وصلت به إلينا قد تكون متأثرة بشكل أو بآخر بقصة حقيقية هي قصة المدعو بيدرو غونزاليس، المواطن الإسباني المولود في القرن السادس عشر في جزيرة تينيريفي (إسبانيا)، الذي اشتهر في أوربا بأسرها بكونه أعجوبة بسبب شعره الكثيف، الذي كان ينمو بسرعة عجيبة إلى درجة جعلت الملك الفرنسي هنري الثاني يطلب إحضاره إلى بلاطه ليراه عن قرب ويرصد النمو المذهل لشعره الذي يغطيه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه.

وبالفعل أحضر غونزالس إلى قصر الملك، الذي تعاطف معه كثيراً ثم شمله بحمايته التامة وراح يستدعيه إلى مجلسه مانعاً أي واحد من حاشيته من السخرية منه.

ولقد انتهت تلك الحكاية بأن تزوج "ذو الشعر الكثيف"، كما راح العامة يسمونه في باريس، من امرأة باريسية جميلة تدعى كاثرين، لم تكن تكف عن امتداحه والتحدث عن نبل أخلاقه وجمال روحه.

ويبدو أن كثراً من الكتاب ورجال العلم والأخلاق قد ربطوا حكايته بتلك الحكايات المتواترة، منذ أوفيد فولدت حكاية واحدة باتت هي أصل حكاية "جميلة والوحش" التي عرفت كيف تصمد في وجه عاديات الزمن لتصل إلى زمننا متخذة بعدها الإنساني الخلاق.

يمكننا القول هنا إن تلك هي إذن الحكاية التي وصلت إلى أحدث تجلياتها بعد أن جالت حول العالم انطلاقاً من الصيغة التي استقرت منذ كتبتها للصغار المربية الفرنسية جان ليبرنس دي بومون عند نهايات القرن الثامن عشر لتصل إلى ذروة عالميتها مع الفيلم الذي حققته استديوهات "ديزني" السينمائية عام 1991، استناداً بعض الشيء إلى السيناريو الذي كان وضعه جان كوكتو لفيلمه.

ومن هذا المزيج أنجز الموسيقار آلان منكن أوائل تسعينيات القرن العشرين عرضه الموسيقي الكبير الذي يستعاد تقديمه هذه الأيام في باريس انطلاقاً من نص شاعري غنائي كتبه هاوارد آشمان وتيم رايس.

ونعرف أن "ميوزيكال" "بيوتي آند ذي بيست" يشغل منذ افتتاحه في برودواي للمرة الأولى عام 1991 ثم في "الويست إند" عام 1994 المرتبة الثانية عشرة بين أنجح عروض هذا النوع محققاً حتى عام 2007، تاريخ نهاية الدورة الأولى لعروضه، ما يقرب من 430 مليون دولار من عروضه الأميركية وحدها، بينما بلغت مداخيله على الصعيد العالمي ملياراً و600 مليون دولار (المرتبة التاسعة في ترتيب يفيدنا بأن المرتبة الأولى لـ"كينغ ليون" بما يقرب من تسعة مليارات، يليه "شبح الأوبرا" بما يزيد على ستة مليارات فـ"ماما ميا" بـأربعة مليارات...إلخ).

مهما يكن من أمر، فإن الحكاية كما باتت اليوم راسخة وتقدمها المغناة التي تعد الصيغة الأكثر عصرية للحكاية، تبدأ ذات ليلة شتاء باردة حين تصل متسولة عجوز إلى قلعة يحكمها أمير شاب متهتك ومدلل.

وحين تلتقيه تعرض عليه وردة فريدة من نوعها مقابل أن يؤويها من البرد والجوع في تلك الليلة، لكن الأمير يصرفها وقد اشمأز من مظهرها، هنا تحذر المتسولة الأمير من أن يمعن في الركون إلى المظهر منشدة بتحد أغنية هي الأغنية الافتتاحية للمغناة، فحواها أن الجمال الحقيقي هو جمال الروح لا جمال المظاهر.

وإذ لا يأبه الأمير بما تقول ويطردها أكثر وأكثر قائلاً إنه لا يريد أن يراها لا عنده في قلعته ولا في الجوار، تتحول المتسولة من فورها إلى صبية في غاية الجمال وتعمد بقوة السحر الذي تملكه إلى تحويل الأمير إلى وحش كثيف الشعر قبيح الملامح فيما تحول خدمه وأهل بلاطه إلى أدوات منزلية.

وينتهي بها الأمر إلى إعطائه الوردة التي كان قد رفض أن يأخذها في البداية، معلنة له أنه لن يعود إلى حالته الطبيعية إلا حين يلتقي الحب الحقيقي ويتعرف إليه، أي حين يتعلم أن يحب امرأة تبادله الحب، شرط أن يفعل ذلك قبل أن يسقط آخر برعم من على آخر شجرة في حديقته.

وعلى هذا تنتهي المقدمة التي لا تتوانى في المغناة عن توضيح الأمور والفحوى منذ البداية، طالما أن الناس جميعاً يعرفون الحكاية ويبقى هنا أن يتابعوا سيرورتها فنياً بالشكل الذي اختاره أصحاب العمل، وما اختاروه إبداع فني حقيقي من الواضح أنه أعطى الحكاية روحاً جديدة عبر ألحان رائعة، كما عبر رقصات لا بد أن نلاحظ كيف أنها تتطور مع كل تقديم للمغناة.

وفي هذا السياق، لا بد من الثناء على الكيفية التي أدخلت بها الطبعة الفرنسية الأحدث من "جميلة والوحش" رقص الهيب هوب وأحدث أنواع الرقص المعاصر إلى عمل تتضاءل كلاسيكيته تقديماً بعد تقديم لتتفاقم حداثته في كل مرة.