حسن فحص
يبدو أن آثار الصدمة الأمنية التي تواجهها منظومة السلطة في إيران ما زالت مستمرة، وتأخذ تعبيراتها أشكالاً مختلفة، ومن المستبعد أن تصل إلى نهاياتها في المدى المنظور، بخاصة أن علاجات الترهل الأمني قد لا تستطيع الحد من التداعيات والارتدادات السلبية، التي بدأت تتكشف يوماً بعد يوم.
أن يخرج معاون مندوب "ولي الفقيه" في مؤسسة "حرس الثورة" حسين طيبي فر، ويدعو بشكل صريح إلى إحداث تغيير في البنية العقائدية لقوات "الحرس"، وأن يبدأ العمل على استخدام جماعات تؤمن بالعنف الثوري والقتل من أجل العقيدة، وأن لا تتردد في استخدام النار والسلاح بوجه أي حركة اعتراضية سلمية أو أمنية، فضلاً عن تزايد حالات الاستدعاء والاعتقال التي تجري بصمت لعدد من الصحافيين والناشطين، تعني أن منظومة السلطة بدأت تلمس جدية الأخطار التي قد تحدث في المرحلة المقبلة، مع تنامي الصراعات بين أجنحة التيار المحافظ على المكاسب والانسداد على كل المستويات السياسية والاقتصادية وعدم قدرة النظام على حسم موقفه من المفاوضات النووية واستمراره في تضييع فرص الحل.
اللجوء إلى التصعيد والتشدد في التعامل مع الأزمات التي تعاني منها منظومة السلطة، يعني أن الأمور وصلت إلى مراحل، باتت هذه السلطة تستشعر معها حقيقة الخطر الوجودي الذي يهددها جراء تراكم الأزمات الإدارية والاقتصادية والسياسية والأمنية، والتحديات الثقافية التي انتقلت إلى مستويات متقدمة من التناقض والصراع بين الخطاب الأيديولوجي الرسمي للنظام، والخطاب المتحرك القائم على التعددية الفكرية والسياسية، والاعتراف بالتنوع العرقي والديني والثقافي.
والتهديد الذي يواجهه النظام الإسلامي الإيراني لا يأتي من القوى والأحزاب والجماعات المعارضة الفاعلة في الخارج. فهذه الأحزاب، وإن كانت تملك جماعات مؤيّدة لها في الداخل، إلا أنها تعاني من أزمة في خطابها العاجز عن بناء قاعدة شعبية واسعة ومؤهلة لحمل مشروع التغيير الشامل وما يتطلبه من إمكانية الدخول في مواجهة ميدانية مع أجهزة النظام، فضلاً عن أن هذه القوى لا تتفق على رؤية مشتركة لمرحلة ما بعد النظام الإسلامي، في حال استطاعت فرض التغيير الذي تريده. والعجز في خطاب القوى المعارضة، تحديداً تلك التي تنشط من الخارج، يأتي من الذاكرة الجماعية لدى مختلف شرائح المجتمع الإيراني، الرافض للخطاب الأيديولوجي أو العقائدي المغلق الذي لا يختلف عن الخطاب القائم سوى بالأدوات ويحاول إعادة إحياء منظومات فكرية وسياسية وسلطوية تاريخية، لا تملك تمثيلاً شعبياً سوى داخل الأطر التنظيمية لهذه القوى والأحزاب، فضلاً عما تثيره من مخاوف بالانتقال من دائرة مغلقة إلى أخرى محكومة بالانغلاق بعد الانتهاء من تثبيت سلطتها، على غرار ما حصل بعد عام 1979، والانتقال من الشعارات الجميلة التي رُفعت خلال الثورة، وما آلت إليه الأمور بعد قيام النظام الجديد.
تناقضات الخطاب داخل القوى المعارضة الإيرانية، تجعل من السهل اعتبارها معارضات متفرقة، كل طرف فيها يعمل ضمن الأجندة الخاصة به، ما يتضمن عملياً إمكانية الانتقال إلى صراع أجندات مفتوح على المجهول، إذا ما حصل انهيار النظام، بخاصة أن الداخل الإيراني، السياسي والاجتماعي، له رأي آخر، لا يلتقي مع خطاب هذه القوى وأجنداتها، وحسابات التغيير لديه لا تدخل في إطار السعي لإحداث تغيير جذري وعنيف قد يضع إيران الدولة والجغرافيا في دائرة الصراعات الداخلية المفتوحة.
قبل أسابيع من اعتقاله في ديسمبر (كانون الأول) عام 2000، سألت السياسي الإيراني عزت الله سحابي، عضو مجلس قيادة الثورة، وأحد قادة حركة التيار الديني القومي و"حركة تحرير إيران"، عن مستقبل البلاد في ظل حالة التشدد والرفض التي يمارسها النظام في مواجهة الحركة الإصلاحية التي بدأت تتحول إلى منظومة فكرية وسياسية صريحة بعد انتخاب محمد خاتمي لرئاسة الجمهورية عام 1997، فقال بشكل صريح ومباشر إن "على السلطة الدينية التعامل مع التنوع والتعدد السياسي والفكري في البلاد بأسلوب مختلف إذا ما كانت تسعى إلى الاستمرار والبقاء، بالتوازي مع البدء بعملية الانفتاح على الخارج، لأن الاحتقان الداخلي قد يؤدي إلى انفجار غير معلوم النتائج، ومن الممكن أن يترافق مع تحرك خارجي للقضاء على النظام، إلا أن الوراث لهذا النظام لن يكون سوى الشيطان، وستذهب إيران إلى التفكك والتشرذم والصراعات الدموية العرقية والمناطقية والقومية والمذهبية".
وتوقف سحابي حينها عند أزمة النظام الذي يجد صعوبة في الاعتراف بالمعارضة أو الحركة الإصلاحية، التي لا تزال تلتزم السقوف الدستورية في مشاركتها بالعملية الديمقراطية والانتخابات، مبدياً تخوفه من أن تصل الأمور مستقبلاً إلى أن لا يجد النظام من خارج جماعته من يقبل بالعمل السياسي في ظل الشروط الدستورية القائمة، ويطالب بتغيير جذري يطال أول ما يطال، مبدأ "ولاية الفقيه". وأشار سحابي إلى أنه كان من معارضي هذه المادة الدستورية، وناقشها مع الزعيم المؤسس حينها وطلب عدم إدخالها في الدستور، إلا أن شخصيات مثل حسن آيت ومظفر بقائي (حزب الكادحين) تمثل التطرف الديني، إضافة إلى مدير مكتب المرشد الحالي محمدي كليايكاني، مارست ضغوطاً لإدراجها وفرضها.
العودة إلى الحديث عن عسكرة الأجواء الداخلية من جديد وبهذا المستوى، تكشف أن النظام الإيراني بدأ يشعر بحجم التحدي الذي يهدد استمراره وبقاءه، ليس من قوى المعارضة في الخارج، بل من القوى الشعبية الداخلية، وبدلاً من التفكير في الذهاب إلى منهجية جديدة وخطاب يستوعب كل أطياف المجتمع والاجتماع السياسي، فإنه ما زال يفكر بمعالجات قمعية تعتمد على الرصاص بدل الحوار والشراكة.
في عام 2009، وبعد الأحداث التي شهدتها إيران نتيجة التلاعب بالانتخابات الرئاسية وإعادة فرض محمود أحمدي نجاد رئيساً على حساب مرشح "الحركة الخضراء" مير حسين موسوي، وفي جلسة مغلقة، سأل دبلوماسي أميركي عن الأسلوب الأنسب للتعامل مع الوضع الإيراني، فأجاب أحد المشاركين، وبخبث إيراني، من الأنسب ترك الأمور من دون تدخل، لأن النظام وقيادته، سيدخلان في صراعات داخلية واستنزاف لن يكون من السهل الخروج منهما. بالتالي، فإن المنظومة ستكون أمام أحد خيارين، إما خسارة كل شيء أو اللجوء إلى تنازلات قد تكون مؤلمة تسمح لها بالاستمرار.