تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

رحيل فيتّي رمز الحداثة السينمائية

مونيكا فيتّي
AvaToday caption
يُروى أنها عاشت طفولة تعيسة وسط أشقّاء كانوا محل تفضيل عند أهلها، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى التمثيل وهي في عمر الـ14، فشكّل التمثيل متنفّساً لها. من شدة الألم الوجودي، كانت تشعر أنها اكتفت من الحياة
posted onFebruary 4, 2022
noتعليق

غابت مونيكا فيتّي عن 90 عاماً في بيتها في روما بعدما تلاشت ذاكرتها في السنوات الأخيرة وما عادت تتذكّر من سيرتها العظيمة شيئاً يُذكر، تاركةً تلك المهمة إلى مَن عاصرها أو من اكتشفها لاحقاً داخل الصالات المظلمة. أقل ما يمكن القول على سبيل الايجاز أنها جسّدت شخصية المرأة الأبدية شأنها شأن المدينة (روما) التي تحدّرت منها، وكانت نساء كثيرات في امرأة واحدة. الراحلة أضحت أيقونة الحداثة في السينما الأوروبية وواحدة من أكثر الوجوه تعبيراً عن السينما الإيطالية بالأبيض والأسود، يوم كانت هذه السينما في عزها، وتمد العالم بثلاث أو أربع تحف سينمائية كلّ عام. جمالها جمال بارد يلفّه الغموض، طلتها طلة أرستوقراطية، أناقتها أناقة نادرة، تعبيرها تعبير صارخ عن الوجودية في أوروبا الستينيات. مونيكا فيتّي كانت الجسد والوجه لأفكار وقضايا متعددة استطاع العالم في تلك الفترة ربطها فيها من خلال حفنة من الأدوار التي لن تغادر الذاكرة الجماعية.  

يُروى أنها عاشت طفولة تعيسة وسط أشقّاء كانوا محل تفضيل عند أهلها، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى التمثيل وهي في عمر الـ14، فشكّل التمثيل متنفّساً لها. من شدة الألم الوجودي، كانت تشعر أنها اكتفت من الحياة، فساعدها التمثيل للتخلص من الأفكار السلبية، فهو كان يتيح لها "الادعاء بأنها شخص آخر"، على حد تعبيرها. صحيح أنها تخرجت من المعهد الوطني للتمثيل في روما، لكن بداياتها كانت متعثرة ولم تلفت الأنظار. ناضلت كثيراً ليتم الاعتراف بموهبتها، خصوصاً بعد هجرة أهلها إلى أميركا وبقائها وحيدة في وطنها بلا سند

اختار أنتونيوني مونيكا فيتّي بعدما شاهدها في مسرحية لجورج فيدو. في البداية، لم يكن يطمع بسوى صوتها لدبلجة صوت الممثّلة دوريان غراي في فيلمه "الصرخة"، ذلك أن السينما الإيطالية في تلك الفترة كانت تلجأ إلى تقنية تسجيل الصوت بشكل منفصل عن الصورة. لكن الأشياء أخذت منحى آخر، إذ سرعان ما شكّلت فيتّي لقيا بالنسبة لأنتونيوني، سواء على المستوى الفني أو العاطفي (كان يكبرها بـ19 سنة). فشكّلا ثنائياً في الحياة وعلى الشاشة لعقد من الزمن، على غرار غودار - كارينا. خلفية كلّ منهما كانت جد مختلفة عن خلفية الآخر، ومع ذلك تقاطعت المصائر. هو اقتنع بسرعة بأنّ يجب عليها أن تقف قبالة الكاميرا وهي استجابت. وقعت كاميراه في غرام عينيها، عينان، قال عنهما ذات مرة: "أغرب شيء فيهما أنهما لا تتوجهان إلى غرض معين، بل تتأملان أسراراً بعيدة. نظرتها نظرة شخص يبحث أين سيحط ولا يجده".

أضاءت فيتّي أربعاً من روائع المعلّم الإيطالي في بداية الستينيات: "المغامرة" حيث لعبت كلوديا وفازت عن هذا الدور بجائزة أفضل ممثّلة (نال الفيلم جائزة "لجنة التحكيم" في مهرجان "كان" ولم يتم استقباله بشكل جيد في البداية)، وهو الفيلم الذي عرّفها على العالم، وفاز أنتونيوني من خلاله باعتراف دولي غير مسبوق. غابريال فيرزيتّي وفيتّي وليا ماساري أبطال هذا الفيلم الغريب، مناخاً وقصّة وأسلوباً، إذ يغوص في تجاذبات مثلث على حافة الانهيار. عاين الفيلم دواخل الشخصيات في دراسة سيكولوجية عميقة لسلوكياتها، بمنحى ظلّ بلا وريث طوال سنوات، مما دفع المعلّم إلى التصريح: "الصورة ضرورية فقط عندما يكون كلّ متر مرّبع منها ضرورياً أيضاً". "المغامرة" فعل تمرد على السينما وثورة على مستوى السرد الكلاسيكي، تخلى فيه أنتونيوني عن الحبكة التقليدية ليتعقّب خطى شخصيات منغقلة على نفسها. لا شيء في الإيقاع والتوتر يذكّر بالسينما الإيطالية التي نعرفها. ويأتي أداء فيتّي فيه ليكمّل فكرة المخرج عن السينما والوجود. انفعالاتها تتساقط على دفعات، يصعب على المشاهد أن يخترق تفكيرها بسهولة لشدة الالتباس. تصوير أنتونيوني لفيتّي في هذا الفيلم أسطوري، وكان يشي بأنها باتت ملهمته.

ثم كان "الليل" (فيتّي وجانّ مورو ومارتشيلليو ماستروياني) و"الكسوف" (مع ألان دولون)، اللذان شكلا مع "المغامرة" ثلاثية عززت أسلوب المخرج وجعلت من فيتّي أيقونة وأكدّت لكنته.

أما "الكسوف"، فهو فيلم ينطوي على نصّ بنيوي عن عالم جديد يعتبره كثيرون ذروة الحداثة الأوروبية، "أسوة بتلك الفترة الممتدة ما بين أواخر الخمسينات ومنتصف الستينات حيث سينمائيون مثل فيلليني وغودار وبرغمان وأنطونيوني اختبروا أشكالاً فيلمية جديدة وأساليب سرد صارخة، لا بل حكايات مختلفة عن السائد"، كما يقول الناقد الأميركي ريتشارد بنيا. ثم جاء "الصحراء الحمراء"، الذي تكللّ بـ"الأسد الذهبي" في البندقية عام 1964. في كافة هذه الأفلام، كانت ثمة استعادات على إيقاعات وتنويعات مختلفة للأقدار الخائبة والتجارب العاطفية التي لا تؤدي إلا إلى المأزق الكبير: صعوبة العيش والصمود وتدمير الذات والاحتراق على نار خفيفة.

أنتونيوني المهتم الدائم بقضية انحطاط القيم وانحلال المبادئ الإنسانية، وجد في وجه فيتّي لوحة بيضاء استثنائية يرسم عليها أهواءه. قلب مفهوم النظر إلى الأشياء، وقلب الطاولة على الكثير من القواعد التي كانت معمولة بها. لغته المبتكرة والمحلّقة والمؤسلبة أحدثت ثورة. وكلازمة تغدو هاجساً كابوسياً، حفلت أفلامه بشخصيات تتخبط في مأزقها الوجودي وفي بحثها المستحيل عن حقيقة متنكرة. في حين حدّد العلاقة بين الجنسين علاقة صراع وسوء فهم وانقطاع حوار، وكانت فيتّي حاضرة في هذا كله.

من البديهي تخصيص الجزء الأكبر من مقال في رثاء فيتّي عن عملها مع أنتونيوني الذي سبقها إلى العالم الآخر بـ15 عاماً، فهذا التعاون هو النقطة المضيئة في مسيرتها الحافلة التي تنطوي على نحو 50 دوراً نالت عنها جوائز عدة. وكانت فيتّي بعد انتهاء تجربتها معه، انخرطت في كوميديات تحت إدارة مخرجين بعيدين جداً عن أنماط أنتونيوني، هؤلاء الذين صنعوا ما بات يُعرف في الستينيات والسبعينيات بـ"الكوميديا على الطريقة الإيطالية"، وأسماؤهم دينو ريزي وماريو مونيتشيللي وكارلو دي بالما. لم تتردد أيضاً من الموافقة على الاضطلاع بأدوار ثانوية على غرار زملاء لها في تلك المرحلة. من أفلامها في السبعينيات يمكن أن نتذكّر "دراما الغيرة" لإيتوري سكولا و"نحن النساء هكذا" لدينو ريزي و"أشباح الحرية" للويس بونويل، قبل أن تقف في العام 1980 مرة خامسة وأخيرة أمام كاميرا أنتونيوني في "لغز أوبرفالد" بدور الملكة.   

انسحبت فيتّي من الحياة الفنية والاجتماعية في مطلع الألفية ولم تعد لا إلى السينما ولا إلى المسرح. في العام 2011، أعلن زوجها الثاني روبرتو روسّو بأنها مصابة بالألزهايمر منذ أكثر من 15 عاماً وتحديداً منذ 1996. لحسن الحظ أن مهرجان البندقية السينمائي كان كرّمها العام السابق بجائزة "الأسد الذهبي" عن مجمل مسيرتها الفنية.