تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

سحر الأفلام الإيرانية نافست أفلام العالمية

فيلم البيت الأسود الإيراني
AvaToday caption
أطلت الشاعرة الإيرانية البارزة والمشهورة على نطاقٍ عالمي «فروغ فرخزاد» في السينما الإيرانية وأسست لتاريخها
posted onNovember 26, 2018
noتعليق

بعيدًا عن هوليود والأفلام الناطقة باللغة الإنجليزية، نظم موقع «بي.بي.سي» البريطاني استطلاع رأي موجّه للنقاد ليصوّتوا على أفضل الأفلام غير الناطقة باللغة الإنجليزية للاحتفاء بالسينما العالمية. ظهرت النتيجة لتجمع نخبةً مكوّنة من 100 فيلمٍ عالميّ أجنبيّ تشمل ضمنها  أربعة أفلام إيرانية. الناقد والبروفسور في الدراسات الإيرانية والأدب المقارن والسينما العالمية في جامعة كولومبيا «حميد دباشي» يستكشف سرّ النجاحات السينمائية لهذا البلد، ويلقي الضوء على ملامح السينما الإيرانية وأبرز محطاتها في مقاله الأخير على موقع «بي.بي.سي».

فيلم البقرة

سينما عابرة للحدود والثقافات

أول فيلمٍ إيراني ضمن قائمة «بي بي سي كالتشر» هو فيلم «انفصال» للمخرج «أصغر فرهادي» وجاء في الترتيب الحادي والعشرين ليدخل ضمن أفضل 25 فيلمًا عالميًا، أما الأفلام الثلاثة المتبقية جميعها من إخراج «عباس كيارستمي» -وهو مخرج سينمائي إيراني عالمي ذائع الصيت، بالإضافة لكونه كاتب سيناريو ومنتج أفلام- والأفلام على الترتيب هي: «عن قرب» بالمرتبة التاسعة والثلاثين، و«أين منزل الصديق؟» بالمرتبة الرابعة والتسعين و«مذاق الكرز» بالمرتبة السابعة والتسعين.

 كيارستمي هو أكثر المخرجين الذين ربطوا الحياة بالسينما ذكاءً، إنه شاعر السينما، وُيعتبر الإجابة الأكثر إقناعًا على خطأ التصورات الغربية للحياة – الناقد السينمائي أدريان مارتين

ليس وصول الأفلام الإيرانية إلى القائمة أمرًا مفاجئًا وفقًا لـ«دباشي» ولا اختيار هذه الأفلام بالتحديد أيضًا. كان يمكن أن تشمل القائمة أفلامًا عظيمة أخرى من السينما الإيرانية، لكن لا أحد سيشكك بثقل الأفلام الأربعة المذكورة أعلاه ولن يرتاب أحدٌ أبدًا بهيبةِ «كيارستمي» وحضوره السامق في مصاف المخرجين العالميين النخبة. مرّت السينما الإيرانية بصورتها العامة بعلاماتٍ فارقة على مدار المئة عام ونيّف الماضية ما جعل المخرجين الإيرانيين محط اهتمام العالم.

على العموم، فإن النقاد الذين اُستشيروا لإنشاء قائمة الأفلام النخبة عرفوا السينما الإيرانية –وأي سينما عالمية- غالبًا من خلال المهرجانات السينمائية الدولية الكبرى، وبشكلٍ رئيسي مهرجانات كان والبندقية وبرلين ولوركانو إذ تتفوق عادة على ما يناظرها من مهرجانات في الولايات المتحدة واليابان وكوريا والشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

لك أن تتخيل الطريق التي شقّته الأفلام الإيرانية وسلكته لتصل إلى تلك المهرجانات الكبيرة انطلاقًا من إرث إيران الثقافي والاجتماعي، وقد تطورت السينما الإيرانية بشكلٍ عابرٍ لحدودها الوطنية بدءًا من الفترة الأولى حين صوّرت أفلامها في استديوهات «شركة الهند الشرقية» في الهند-هنالك صُنعت أول الأفلام الإيرانية، وصولًا إلى تلك المهرجانات الأوروبية والعالمية.

تاريخ سينمائي عريق

لم تقتصر السينما الإيرانية يومًا على حدودها المحلية، فالحكاية كما يرويها «دباشي» تبدأ منذ فيلم «فتاة دُخترلر»، وهو أول فيلمٍ إيراني ناطق صدر عام 1932 وأصبح يعرف باسم «إيران الأمس وإيران اليوم». أنتج الفيلم «أردشیر إيراني» و«عبد الحسين سبانتا» في شركة «إمپريل فيلم كومباني» في بومباي. هنالك إطار مرجعية أكبر يمتد من أوروبا إلى الإمبراطورية العثمانية والروسية على امتداد الطريق إلى مصر والهند، حيث المناطق التي كانت أساسًا مواقع امتد إليها الشعر والنثر الفارسيان، والفنون البصرية وفنون المسرح.

أطلت الشاعرة الإيرانية البارزة والمشهورة على نطاقٍ عالمي «فروغ فرخزاد» في السينما الإيرانية وأسست لتاريخها. إذ ينوّه «دباشي» إلى فيلم «البيت أسود» وهو وثائقي قصير صدر عام 1962، أرشدت فيه «فرخزاد» السينما الإيرانية إلى دربٍ إبداعي لم تنقطع عنه بعدها أبدًا. صُوِّرَ الفيلم في مستعمرةٍ للمصابين بالجذام، وكان هذا الفيلم علامةً فارقة في المزج بين الواقع والخيال بطريقةٍ فريدةٍ شقّت الطريق لما بعدها من إبداعات.

وقبل انقضاء ذلك العقد المصيريّ، هُرّب فيلم «البقرة» (1969) للمخرج «داريوش مهرجوئي» إلى خارج إيران ليُعرض في مهرجان البندقية السينمائي عام 1971، حيث حاز جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين «Fipresci»، وعزز عرضه لاحقًا في برلين من الإدراك العالميّ له وتمييزه وكان بمثابة لحظةٍ حاسمة في مسيرة السينما الإيرانية الناشئة. يستند الفيلم إلى قصة قصيرة للكاتب «غلام حسين ساعدي»، وتحكي عن رجلٍ قرويّ وعلاقته الفريدة النابضة بالحياة مع بقرتِه بسردٍ مذهلٍ وجماليات بصرية مشهود لها.

الفيلم بعد ثورة الأسلامية

السينما الإيرانية بعد الثورة

على الرغم من ما خاضته السينما الإيرانية في سبعينيات القرن العشرين وما تولد عنه من تطورات حاسمة، إلا أن الثورة الإيرانية في عام 1977-1979 هي ما استحوذ على اهتمام العالم. عاد التركيز إلى السينما مع فيلم «الراكض» (1984) وهو تحفة فنية أخرجها «أمير نادري» وتلقى استقبالًا واحتفاءً هائلًا حين عرض أول مرة بمهرجان القارات الثلاث في «نانت». صُور الفيلم في مواقع متعددة في جنوبي إيران خلال الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988)، وصاغ مشهده السينمائي الخاص متتبعًا أثر صبيّ يافع يعيش بمعزلٍ عن العالم مفتون بالركض، وهو ما منحه «نادري» دلالاتٍ رمزية عميقة.

بعد انتباه العالم لنجاح وتميز فيلم «الراكض» سرعان ما أسبغ الاهتمام على المخرج «عباس كيارستمي» مع عرضه الأول لفيلم «أين منزل الصديق؟» (1985) بمهرجان «لوكارنو» السينمائي، يعتبر هذا الفيلم من الكلاسيكيات اليوم. ورغم أن كيارستمي كان معروفًا وناجحًا في إيران آنذاك، إلا أن استقباله الأوروبي وضعه في مصاف المخرجين العالميين، فأصبح اسمه جنبًا إلى جنب مع المخرج الإيطالي «فيتوريو دي سيكا» صاحب فيلم «لصوص الدراجات» (1984) والياباني «ياسوجيرو أوزو» مخرج «قصة طوكيو» (1953) والهنديّ «ساتياجيت راي» مخرج ثلاثية «آبو» (1955-1959).

سُجّل «كيارستمي» ضمن الأسماء الرائدة في مجال الإخراج الإيراني من منظورٍ عالمي، وفي الوقت نفسه بدأت آثار أسرة «مخملباف» تشكل ملامح السينما الإيرانية خصوصًا مع عرض «سميرة مخملباف» فيلمها الأول «التفاحة» (1998) بمهرجان كان، لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها آنذاك. يذكر البروفسور «دباشي» أنه حضر المهرجان يومها ورأى كيف تغير الإدراك العالمي لإيران بين عشية وضحاها من أيقونة الرجل الملتحي الغاضب (يقصد الخميني) إلى وجهٍ باسم ولطيف لمخرجةٍ إيرانية يافعة. يعتبر «دباشي» أنها كانت لحظة تحول فارقة في الاستقبال العالمي للسينما الإيرانية، وبالتالي إيران نفسها بالمجمل.

لم تتجاوز «سميرة مخملباف» الثامنة عشر من عمرها، حين عرضت فيلمها الأول بمهرجان كان في العقد التالي، حاز «جعفر بناهي» على شهرةٍ دوليةٍ كبيرة مع عرض فيلمه الأول «الدائرة» (1999) بمهرجان البندقية، كان «بناهي» تلميذًا لعباس كيارستمي لكنه أخذ البراعة السينمائية إلى حدودٍ لم تتلق اهتمام أستاذه، بتعريجه على مجالاتٍ ومواضيع اجتماعية وسياسية معينة. في البداية، كانت خطوات «بناهي» مدروسة وحذرة، لكن بعد فترة قصيرةٍ تعرض للاعتقال لنشاطه السياسي خلال الحركة الخضراء (2008-2010) وحكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ ومُنِع من الإخراج وصناعة الأفلام، بيد أن ذلك لم يمنعه عن تهريب أفلامه لعرضها في المهرجانات الأوروبية.

مهّد صعود نجمِ المخرج «أصغر فرهادي» إلى تكشّف آفاقٍ جديدة عما يمكن للسينما الإيرانية أن تقدمه. حاز فيلمه الدرامي الاجتماعي «انفصال» (2011) على جائزة الأوسكار لأفضلِ فيلمٍ أجنبي عام 2012، وبعد خمس سنوات، حاز فيلمه «البائع» (2016) مرة أخرى على الجائزة نفسها. جاء «فرهادي» إلى عالم السينما من خلفيّة مسرحية، ولذلك ما تزال تتسم أفلامه بالدراماتيكية العميقة ممزوجة بالحسّ المسرحي، فضلًا عن التصوير السينمائي البارع لمدير تصويره محمود كلاري»، الذي شكّل عنصرًا فعالًا في تحديد هذا الإحساس بالدراما السينمائية.

وفّر العرض العالمي للفيلم الإيراني اهتمامًا دوليًا لبعضٍ من أفضل أعمال السينما الإيرانية، وهو ما غذّى بطبيعة الحال الجوانب الجمالية والفكرية لذخيرة الأفلام السينمائية اللاحقة في البلاد، إذ أن الاهتمام العالمي عادَ بنفعٍ كبير وألهم أجيالًا متتالية من صنّاع الأفلام الإيرانيين.

لا بدّ أن هنالك بعضًا من الأفلام الإيرانية الرائعة لم تحظ أبدًا بالاهتمام الذي تستحقه ولا الشهرة التي نالت أمثالها. مما يذكر البروفسور «دباشي» في هذا المجال: أفلام «فرخ غفاری» و«إبراهیم گلستان» و«بهمن فرمان‌آرا» من بين كثيرين آخرين، بالإضافة إلى المخرجات الموهوبات وصانعات الأفلام الإيرانيات اللواتي لم يوفّهن العالم حقّهن من الاهتمام والتقدير؛ مثال ذلك: « رخشان بنی اعتماد» و«مرضية مشكيني» و« منيژه حكمت».

يختتم «دباشي» مقاله بالتنويه إلى الجيل الجديد من صانعي الأفلام الإيرانيين الناشئ خارج بلاده والمجبول من طين الأرض الخصبة لأصول السينما والثقافة الإيرانية العابرة لحدودها الوطنية، من بينهم: «رامين باهراني» مخرج فيلم «تشوب شوب» (2007)، و«شيرين نشأت» مخرجة فيلم «نساء بلا رجال» (2009). جذور هؤلاء المخرجين تضرب عميقًا في أكثر مناطق السينما الإيرانية ثباتًا، ولكنهم الآن يستكشفون آفاقًا مستقبلية في مساحات مجهولة لم تُطرق من قبل.