عندما قدّرت جهات أميركية الفترة الزمنية اللاّزمة للقضاء على تنظيم داعش بثلاثة عقود، كانت الدوافع السياسية وراء هذا التقدير واضحة، حيث كانت تلك الدوائر تبحث عن مبرّر للولايات المتّحدة للإبقاء على قواتها في العراق وسوريا المجاورة لأطول فترة ممكنة. ومع ذلك لم يثبت إلى حدّ الآن خطأ ذلك التقدير.
فبعد أكثر من عامين على تلقّي داعش هزيمة عسكرية مدوية أدت إلى استرجاع الأراضي العراقية والسورية التي احتلّها بدءا من سنة 2014، وأسقطت “دولة الخلافة” التي أعلنها على تلك الأراضي، ما يزال التنظيم موجودا في العراق بشكل رئيسي ويعبّر عن ذلك الوجود بعمليات دموية فشلت القوات العراقية ومعها قوات التحالف الدولي في وقفها والحدّ من الخسائر المادية والبشرية المترتّبة عليها.
وخلال الأشهر الثمانية المنقضية من سنة 2020 شنّ التنظيم العشرات من الهجمات في مناطق شمال وغرب العراق وتركّزت بشكل أساسي في المنطقة المعروفة بـ”مثلث الموت” الممتدّ بين محافظات كركوك وصلاح الدين وديالى، وهي منطقة ينتمي أغلب سكّانها للطائفة السنّية التي يتصيّد التنظيم المتشّدد أتباعه من بين أبنائها الأكثر فقرا وتهميشا، وبالتالي الأكثر نقمة على نظام الحكم القائم في العراق بقيادة الأحزاب الشيعية.
ويستبعد كثيرون أن يكون لتنظيم داعش حواضن شعبية في المناطق السنيّة بالعراق، بفعل دمويته الشديدة وتنكيله بسكّان المناطق التي احتلّها بين سنتي 2014 و2017، حيث قتل وشرّد الآلاف من سكان تلك المناطق، وتسبّبت الحرب التي خاضها هناك في دمار هائل بالبنى التحتية والممتلكات الخاصة والعامة ما تزال آثاره ماثلة إلى اليوم، ومع ذلك يتساءل البعض؛ كيف يمكن للتنظيم أن يحافظ على وجوده في مناطق ينبذه أهلها بالكامل؟
ويقول هؤلاء إنّ داعش إذا لم يكن يحظى بتعاطف وتأييد بعض الأوساط في العراق، فإن عناصره يستفيدون على الأقل من تستّر سكان بعض المناطق عليهم، من منطلق عدم اكتراثهم بالتعاون مع الدولة التي ضعف شعورهم بالانتماء إليها بعد أن خذلتهم وهمشتهم وتركتهم لمصيرهم طيلة السنوات الـ17 الماضية.
دورة عنف جديدة
أوقعت أحدث موجة من الهجمات التي شنّها التنظيم المتشدّد في العراق هذا الأسبوع المزيد من الخسائر في الأرواح، حيث قتل الأربعاء ثلاثة أفراد من الشرطة العراقية في هجوم شنّه عناصر داعش على نقطة تفتيش أمنية بمحافظة الأنبار غربي البلاد، وأسفر أيضا عن إصابة ضابط برتبة ملازم بالجيش وشرطي بجروح. وجاء ذلك إثر هجوم مماثل شنّه عناصر التنظيم، الإثنين، على حاجز أمني بمحافظة كركوك أسفر عن سقوط أربعة قتلى وأربعة جرحى في صفوف عناصر الفوج الثالث للشرطة الاتحادية.
وكان ذلك الهجوم واحدا من ثلاث هجمات شنّها التنظيم خلال أقل من أربع وعشرين ساعة على حواجز أمنية وعسكرية. فبالإضافة لهجوم كركوك أصيب جندي بجروح في استهداف آخر لحاجز عسكري في ناحية العظيم شمالي ديالى، بينما قتل جنديان في هجوم استهدف حاجزا عسكريا في المحافظة ذاتها.
ورأى الخبير الأمني العراقي هشام الهاشمي (اغتيل في يوليو الماضي) في السابق أن تنظيم داعش لا يستثني من تكتيكاته لمرحلة ما بعد هزيمته العسكرية هدف “المصالحة مع المجتمعات ذات الأغلبية السكّانية السنّية”، معتمدا على هيكل تنظيمي جديد صمّم ليمنح التنظيم “القدرة على تطوير أساليب عملياته الهجينة وغوايته الإعلامية”.
ينتمي أغلب سكّانها للطائفة السنّية التي يتصيّد التنظيم المتشّدد أتباعه من بين أبنائها الأكثر فقرا وتهميشا، وبالتالي الأكثر نقمة على نظام الحكم القائم في العراق بقيادة الأحزاب الشيعية.
ولفت الهاشمي إلى أن داعش تحوّل إلى الاعتماد “على المناورة الأمنيّة والتمويل الذاتي باحثا في الوقت عينه عن الموارد البشرية والبيئة الحاضنة التي يتكيّف معها الهيكل التنظيمي الجديد، المنسجم مع تحوّلات تكتيكاته القتاليّة، أي من الهجمات العسكرية إلى الهجمات الأمنيّة؛ وهي منهجيةٌ تعتمد على الاستنزاف والإنهاك المُجهِد”، حيث ما يزال التنظيم “قادرا على شن عمليات تعرّضية ونوعيّة يمتلك فيها قدرة المبادرة الزمانية والمكانية، في جبهات متعدّدة، وخاصّة القريبة من المناطق المتنازع عليها (بين الكورد والدولة المركزية) والحدودية والمفتوحة، والتي سبق أن سيطر عليها أو لا يزال يملك فيها خلايا نائمة”.
كما أكد الخبير ذاته أن داعش لم يسقط من حساباته إمكانية “العودة الفعليّة والسيطرة على مناطق جغرافية معيّنة، لكنه ينتظر الفوضى وانتهاء مهام التحالف الدولي في العراق وسوريا”.
وعمليا ما تزال السلطات العراقية في حرب أمنية ضد تنظيم داعش وذلك بعد الإعلان عن حسم الحرب العسكرية ضده في ديسمبر 2017، حيث أعلنت قيادة عمليات نينوى، الثلاثاء، عن مقتل 13 من عناصر التنظيم واعتقال 23 آخرين في عملية ضد خلاياه جنوبي مدينة الموصل.
بيئة مواتية
تظهر مختلف تلك الأحداث أنّ العراق ما يزال رغم الجهود العسكرية والأمنية المرهقة التي بذلها بعيدا عن طي صفحة داعش بشكل نهائي. ويفسّر الخبراء الأمنيون والمحلّلون السياسيون ذلك بأنّ الأسباب السياسية والاجتماعية التي فتحت أبواب العراق أمام داعش من طائفية وفساد حكومي ومن فقر وتهميش ما تزال قائمة في البلد، إن لم تكن استشرت وتوسّعت خلال سنوات الحرب على التنظيم المتشدّد وما خلّفته من مآس، وما تسببت به من خسائر اقتصادية وأضرار في البنى التحتية توسّعت معها دائرة الفقر، وبالنتيجة دائرة الناقمين على العملية السياسية وقادتها.
وبحسب المحلّلين فإن التنظيمات المتشدّدة لن تعجز عن تصيّد أتباع لها في مثل تلك الأرضية المهيأة بالفقر والتهميش ومثل تلك الأجواء السياسية والاجتماعية الموبوءة بالطائفية.
كما تمثّل فوضى السلاح عامل عدم استقرار مؤكّد في العراق ما بعد معركة استعادة الأرض من داعش، حيث تنشط في البلد عشرات الميليشيات الشيعية متعدّدة المشارب والاتجاهات ومختلفة الولاءات، وفي كثير من الأحيان متناقضة في ما بينها، ومتصارعة على إيقاع صراع قادتها على المصالح والمكاسب المادية والسياسية.
وتعتبر تلك الميليشيات عاملا مباشرا في رفع منسوب التوتر الطائفي في العراق باعتداءاتها المتكرّرة على أبناء الطائفة السنية في المناطق التي دخلتها وسيطرت عليها في إطار مشاركتها بالحرب على داعش ضمن ما يعرف بالحشد الشعبي الذي يعتبر جيشا شيعيا رديفا للقوات المسلّحة النظامية.
وكانت الحرب ضد داعش قد أتاحت للميليشيات الشيعية في العراق فرصة توسيع نشاطها ليشمل مناطق السنّة، حيث شاركت في تلك الحرب بعنف شديد وعاملت سكانها في كثير من الأحيان باعتبارهم متعاونين مع التنظيم المتشدّد أو متعاطفين معه، وأعطت نفسها حق محاسبتهم على ذلك، فقتلت من قتلت منهم، واختطفت كثيرين ما يزال مصير المئات منهم مجهولا إلى اليوم، كما لا يزال سكّان عدة مناطق عاجزين عن العودة إلى مناطقهم بعد أن طردتهم الميليشيات منها مثلما هي حال سكّان منطقة جرف الصخر جنوبي العاصمة بغداد.
ومن هذا المنطلق يبدو العراق المنهك اقتصاديا والذي يعاني مشاكل اجتماعية مستعصية بصدد الانغماس بشكل متزايد في حرب أمنية مرهقة ضدّ مجاميع إرهابية متفرّقة أشبه بالأشباح ستظل تنفّذ حرب عصابات وتعمل باستمرار على استنزاف القوات النظامية بهجمات خاطفة وإرهاق الدولة وإرباك حركة الاقتصاد بزعزعة الأمن عبر تنفيذ الهجمات الخاطفة وزرع العبوات وتفخيخ السيارات.
خلل سياسي
يرى مراقبون أن الجهود الأمنية ضد داعش تظل بعيدة عن تحقيق الأمن والاستقرار في العراق، ما لم ترافقها عملية إصلاح عميقة تلغي الطائفية السياسية وتحقّق المصالحة بين مختلف فئات المجتمع ومكوناته، وتعيد المهمشين والمقصيين، وخصوصا من أبناء الطائفة السنية، إلى دوائر الفعل والمشاركة في صنع القرار وإدارة شؤون البلاد.
ولا تمثّل الحرب العسكرية والأمنية ضد داعش والتي دارت فصولها وما تزال في مناطق السنّة، نكبة اجتماعية واقتصادية لأبناء تلك الطائفة، بل زادت في تعميق خلل العملية السياسية بأن كرّست هيمنة المكوّن الشيعي المتحكّم أصلا في مقاليد الحكم بالعراق منذ سنة 2003، كما أفرزت جسما عسكريا طائفيا صلبا هو الحشد الشعبي المكوّن من ميليشيات شيعية والذي بدأ يستخدم كأداة سياسية منذ مشاركته في الانتخابات التشريعية لسنة 2018 ضمن وعاء انتخابي أطلق عليه اسم تحالف “الفتح” الذي دخل البرلمان بسبعة وأربعين مقعدا من مجموع مقاعد المجلس البالغة 329 مقعدا.
ويضعف تهميش سنّة العراق انتماء أبناء هذه الطائفة للدولة ويفقدهم الثقة بها ما يجعل بعضهم صيدا سهلا للتنظيمات الإرهابية ودعايتها التي تركّز عادة على العامل الطائفي وتنجح في كثير من الأحيان في دغدغة أوتاره الحساسة، وهو ما تحقّق مع تنظيمي القاعدة وداعش.
ولا يعزى ضعف التأثير السنّي في العملية السياسية بالعراق، فقط إلى قوّة الأحزاب الشيعية وتمكنّها من مواقع صنع القرار في الدولة والتحكّم بمواردها فضلا عن استنداها إلى سلاح الميليشيات المرتبطة بها، بل يرجع أيضا إلى ضعف الطبقة السياسية التي ترفع لواء تمثيل السنّة ورضاها بأداء دور ثانوي هو أقرب إلى الدور التجميلي.
ويعيش السياسيون السنّة المرفّهون والأثرياء في غالبيتهم العظمى، والمستفيدون ماديا من انخراطهم في العملية السياسية، حالة من الانفصال عن مكوّنهم الطائفي، تكرّست خلال مرحلة الحرب ضدّ تنظيم داعش، عندما فشل هؤلاء السياسيون في إدارة تلك المرحلة العصيبة وفي حماية المكوّن الذي يدّعون تمثيله من تبعات الحرب على التنظيم وما شهدته المناطق السنية من دمار وقتل وتشريد لأهلها.
وتشّق القوى السياسية السنية في العراق خلافات حادّة بسبب تنافس قادتها على المكاسب والمناصب. كما لا يستثني تنافسها التسابق إلى التقرّب بطرق مختلفة من السلطة التي يقودها الشيعة، والفوز بأدوار ولو ثانوية فيها.