تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الهويات الفرعية من الطائفة الى السلاح

أستخدام الدين أحد الوسائل الطائفية لدى إيران
AvaToday caption
البعد الديني الطائفي شكل إحدى أدوات السياسة الخارجية الإيرانية التي تستخدمها في التمدد وتعظيم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط من خلال رفع شعارات فضفاضة؛ كادعاء الدفاع عن المظلومين والمضطهدين في المنطقة ودول العالم أجمع
posted onMarch 11, 2020
noتعليق

أصدر مركز “تريندز للبحوث والاستشارات” مؤخرا دراسة جديدة تحت عنوان “التطرف وصراع الهوية الدينية في عصر العولمة في منطقة الشرق الأوسط”. تناولت الدراسة بالتحليل مخاطر تسييس دور الدين في العلاقات الدولية، وما يترتب عنها من تصاعد للعنف الطائفي في العديد من المناطق حول العالم، وخاصة منطقة الشرق الأوسط.

وتتألف الدراسة من عدة محاور، تطرق أولها إلى جدلية العلاقة بين الهوية الدينية والتطرف، إذ أن الأزمات المعقدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط لا يمكن فهمها بمعزل عن الصراع باسم الهوية الدينية التي تتداخل فيها الأبعاد السياسية والطائفية والعقائدية والمذهبية، وباتت بالفعل أهم روافد الفكر المتطرف، وما يرتبط به من عنف تعاني منه بعض دول المنطقة.

أشارت الدراسة إلى أن الصراع حول الهوية الدينية يعد أحد الأسباب الرئيسية لظاهرة التطرف المسلح والعنف الطائفي، خاصة حينما تضعف الانتماءات الوطنية وتسود بدلا منها هويات فرعية بمضامين مذهبية وعرقية وإثنية ضيقة، والتي عادة تغذيها الجماعات المتطرفة والميليشيات المسلحة التي لا تؤمن بالدولة الوطنية، وتنحاز لانتماءاتها الفكرية والأيديولوجية.

وذكّرت الدراسة بأن هذه الجماعات حاولت استقطاب الكثيرين من خلال اللعب على وتر “الهوية الدينية”، فعلى سبيل المثال كان تنظيم التكفير والهجرة في مصر يطلق على نفسه “جماعة المسلمين”، لأن هذا المسمى يحمل معاني الاصطفاء والنقاء والعمق، رغم أنه كان يتبنى مبادئ تكفير المجتمع ويدعو إلى العنف.

كما أن المسمى الرئيسي الذي أطلقه أسامة بن لادن على تنظيم القاعدة كان “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين”، استنادا إلى أن نقطة انطلاق بن لادن، ومن كان معه هي “قاعدة الجهاد” التي تأسست في باكستان، لاستقبال المقاتلين الذين جاؤوا من دول إسلامية عدة لخوض المعارك ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.

وينطبق الأمر نفسه على جماعة الإخوان المسلمين، فهذه التسمية التي وضعها مؤسس الجماعة حسن البنا لا يقبلها الكثيرون، لأنها تنطوي على تمييز وعنصرية واضحين، ويسمونها بدلا عن ذلك “جماعة الإخوان”، أو “الإخوان المتأسلمون”. ينسحب الأمر عينه أيضا على الجماعات المتطرفة في أفريقيا، التي تضفي على نفسها هالة من القداسة، كجماعة “بوكو حرام” في نيجيريا و”حركة الشباب” في الصومال، واللتان تتبنيان خطابا دينيا يبرر أعمالهما الإرهابية. كما تؤمنان بأفكار تنظيم “داعش” الخاصة ببناء دولة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية.

لقد دفع هذا المفهوم الضيق والغامض للهوية الدينية من جانب هذه الجماعات البعض إلى وصفها بـ”الهوية القاتلة”، ليس فقط لأنها تسعى إلى اختزال الهوية في انتماء واحد يقوم على المذهبية والتعصب، ثم يتطور إلى العنف والقتل، وإنما أيضا لأن هذا المفهوم للهوية الدينية يتجاوز الدولة الوطنية، ولا يعترف بها لصالح ولاءات أكثر اتساعا من الناحية الجغرافية، فـ”دولة الخلافة”، على سبيل المثال، تمثل العامل المشترك الذي يجمع بين كل من داعش والقاعدة وجماعة الإخوان المسلمين، وهي مفهوم يقوم على التمدد الجغرافي ولا يعترف بالحدود الوطنية.

تعرضت الدراسة في محورها الثاني إلى أسباب تصاعد الصراع حول الهوية الدينية، وشددت فيه على أن تصاعد الصراع باسم الهوية الدينية، وما يرتبط به من استقطاب حاد وعنف طائفي ومذهبي، جاء نتاج مجموعة من العوامل المتداخلة، أهمها؛ بروز توجهات دولية متنامية نحو تسييس دور الدين، لا تقتصر فقط على منطقة الشرق الأوسط بل تشمل العديد من المناطق حول العالم، من منطلق أن الدين يعد إحدى أهم أدوات السياسة الخارجية للدول، ويندرج ضمن مفهوم القوة الناعمة، ويحظى بالقبول العام لدى المجتمعات، لكن المشكلة تكمن بالأساس حينما يتم توظيف الدين لخدمة مصالح بعض الدول أو الجماعات سواء كانت دينية سياسية، أو يمينية متطرفة، أو شعبوية، تسعى إلى تقديم تأويلات معينة لمفهوم الدين تخدم مصالحها الضيقة.

فالبعد الديني الطائفي شكل إحدى أدوات السياسة الخارجية الإيرانية التي تستخدمها في التمدد وتعظيم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط من خلال رفع شعارات فضفاضة؛ كادعاء الدفاع عن المظلومين والمضطهدين في المنطقة ودول العالم أجمع.

ميليشيات الحشد الشعبي

وقدمت الدراسة مثال تركيا التي لجأت، هي الأخرى، إلى توظيف الدين في إحياء علاقاتها بدول المنطقة خاصة بعد تولي حزب العدالة والتنمية للحكم عقب انتخابات عام 2002، وشكلت أفكار رئيس وزرائها السابق أحمد داوود أوغلو عن العثمانية الجديدة ركيزة التمدد في العالمين العربي والإسلامي، وهي الأفكار التي قوبلت بترحيب كبير من جانب جماعات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وخاصة لدى جماعة الإخوان المسلمين.

وعرجت الدراسة على أن تنامي تيارات اليمين المتطرف والشعبوية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة، شكل أحد العوامل الرئيسية وراء ظهور الصراعات باسم الهوية الدينية، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن هذه التيارات تعادي منظومة القيم الليبرالية التي تؤمن بالحرية الفردية والدينية والتنوع الثقافي، والتي أسهمت بدورها في تحصين المجتمعات الأوروبية من مخاطر التطرف والكراهية والتعصب.

وتُلقي الدراسة أيضا الضوء على ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة، التي أسهمت في عولمة التطرف وتسييس الهوية الدينية، حيث نجحت الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية وقوى اليمين المتطرف في استغلال مخرجات هذه التكنولوجيا بفعالية في الترويج لمبادئها وأفكارها وفي عمليات التجنيد والدعاية والتنسيق والتخطيط للقيام بالعمليات الإرهابية.

تعرضت الدراسة في محورها الثالث إلى السمات العامة لعولمة التطرف الذي لم يعد يرتبط بمنطقة أو ديانة بعينها، وإنما تحول إلى ظاهرة “مُعولمة”، خاصة مع تصاعد قوى اليمين المتطرف وعودة الشعبوية إلى أوروبا وفي العديد من مناطق العالم في الآونة الأخيرة، وهذه الجماعات تشترك في العديد من السمات مع الجماعات الدينية السياسية والتنظيمات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط، أهمها: رفض الآخر وعدم القبول به أو التعايش معه، التعصب والاستعلاء، التحريض على الكراهية واللجوء إلى العنف والقتل باسم الهوية الدينية.

وأكدت في هذا الفصل أن القتل باسم الهوية الدينية يشكل الوجه الآخر لظاهرة التطرف التي تتغذى على الأيديولوجيات التي تروّج للعنف باسم الدين، وتستخدم العديد من المفردات التي تستهوي بها العامة والبسطاء من أفراد المجتمع، مثل انتصار الخير على الشر، والعدالة الإلهية، وتستوي في ذلك الجماعات الجهادية المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط مع نظيرتها في أوروبا والولايات المتحدة.

وقالت الدراسة إن تصاعد الصراع باسم الهوية الدينية، وما يرتبط به من عولمة التطرف والإرهاب يعيد إلى الأذهان نظرية “صدام الحضارات”، لعالم السياسة الأميركي صمويل هنتينجتون، والتي تشير إلى أنه ورغم انتهاء الصراع بين الأيديولوجيات في العالم، فإن الهويات الثقافية والدينية ستظل مصدرا للصراع بين الأمم والشعوب.

وكانت توقعات هنتينجتون صحيحة في ما يتعلق ببقاء الدين مصدرا للكراهية والعنف، لكن ما أغفله بشهادة الكثير من الباحثين أن الصراع باسم الهوية الثقافية أو الدينية ليس حكرا على التيارات الإسلامية، بل ظهرت تيارات في الولايات المتحدة والغرب تتبنى خطابا مشابها، كالمحافظين الجدد بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وكانت شديدة التأثير على سياسات جورج بوش الابن في الحرب على الإرهاب وغزو أفغانستان والعراق، وفي ما بعد برزت قوى اليمين المتطرف والشعبوية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة، والحزب القومي الهندوسي في الهند.

وشددت الدراسة في محورها الرابع والأخير، الذي جاء تحت عنوان “تحييد الصراعات باسم الهوية الدينية”، على ضرورة التحرك الإقليمي والدولي الفاعل من أجل احتواء الصراعات التي تتخذ من الهوية الدينية ستارا لها، حتى لا ينزلق العالم إلى أتون حروب دينية مدمرة تعيده إلى عصور الظلام، وأشارت إلى أن تحييد الصراعات باسم الهوية الدينية رهين التصدي لمحاولات تسييس الدين، وتجنب الوقوع في فخ المصطلحات التي تشير إلى وجود صراع ديني أو حضاري، والعمل على ترسيخ الهوية الوطنية الجامعة، والاستفادة من التجارب الناجحة في مواجهة التطرف والإرهاب.

كما دعت الدراسة إلى تفعيل العمل بوثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، التي وقع عليها شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وبابا الكنيسة الكاثوليكية “البابا فرنسيس” في أبوظبي في فبراير عام 2019 وتوظيف مخرجاتها وتوصياتها ضمن الآليات التي من شأنها الإسهام في التصدي للتطرف والإرهاب.

وخَلُصت الدراسة إلى أن الأفكار التي عرضتها تشكل خارطة طريق متكاملة للتصدي لقوى التطرف والإرهاب، وتؤسس لمرحلة جديدة من التعايش بين الثقافات والحضارات، أساسها احترام الأديان وعدم الزج بها في أتون الصراعات المذهبية والطائفية.